الثقافي

"بورقيبة والمسرح": بين السياسة وفنون الأداء

فرض هيمنةً على المسرح الذي رأى فيه وطناً صغيراً تحت عين الأمير

يُظهر تاريخ الشخصيات العامّة تماساً بين فنون الأداء والسياسة؛ فكثير من الصور الفوتوغرافية التي التُقطت لزعماء أثناء إلقاء خطبهم تكشف عمق هذه العلاقة، حيث تبرز استعمالات الحركة والصوت، والرغبة في التأثير.

العلاقة نفسُها يمكن رسمها بأدوات أخرى، وهو ما فعله الكاتب والأكاديمي التونسي، عبد الحليم المسعودي، في كتابه الجديد "بورقيبة والمسرح.. قراءة في أطياف بيان تأسيسي" (دار برسبكتيف، 2016)؛ حين اعتمد على أدوات تحليل الخطاب الفنّي لرسم صورة للزعيم السياسي في علاقته بالثقافة، وتحديداً بالمسرح، عبر شخصية الرئيس التونسي الأسبق الحبيب بورقيبة (1903 - 2000).

إذا كانت مفردة الصورة تعني باللغة اللاتينية "المحاكاة"، فإننا نتساءل أي محاكاة أنجزها المؤلّف لبورقيبة في علاقته بأبي الفنون؟

لعلّ أوّل ما يضعنا على طريق فهم استراتيجية المسعودي في رسم الشخصية هو الإهداء (إلى والدته)؛ حيث كتب "إلى زعرة بنت العبيدي رحمها الله... وراء نولها النوميدي ترتّب الحكاية خيطاً فخيطاً". ربما هو إعلان ضمني عمّا اكتسبه الكاتب من والدته في ترتيب خيوط الحكايا والنظر في أطيافها لتكتمل الصورة التي يبحث عنها.

يأخذنا العمل في مسارات تحليل شخصية بورقيبة منذ صغره إلى الزعامة. ثمّة نقطتا ارتكاز أساسيتان: الأولى ممارسة بورقيبة المسرح في شبابه، والثانية خطاب رئاسي عن المسرح في 7 تشرين الثاني/ نوفمبر 1962.

لقد فتح المسرح أمام "الزعيم" أبواب المعرفة والتعامل والحركة، وأتاح له ممارسة مكّنته من اكتساب مهارة فن الخطابة وأكسسوارات التأثير في الآخر. يقول المؤلّف "حافَظ بورقيبة على الخيط المشيمي الذي يربطه بالمسرح، والذي أدرك مزاياه الكبرى في فن الخطابة والإقناع والتهذيب والتطهير، حتى إنه اضطر في بعض الحالات إلى استعمال المسرح كمَخرج من المواقف الصعبة".

هذا الحبل السري الذي استمدّ منه بورقيبة تجربته في وصوله إلى الزعامة وظّفه المسعودي كنقد فني لرجل سياسة ذي بعد فرجوي، مبيّناً أنه كان مريضاً بنزعة الأنا، خائفاً في طياته من المسرح الذي تتلمذ على يده وأكسبه ثقافة القول وروح الحضور، وهو ما انعكس حسب المؤلّف في خطاب بورقيبة عن المسرح في 1962.يبيّن المسعودي أن الخطاب كان ظاهره التثقيف والتربية والمحافظة على الهوية التونسية، لكن أطيافه أو ظلاله كانت مشحونة بنزعة تكتيكية أيديولوجية تشرّع له الهيمنة المباشرة على المسرح الذي كان يراه "وطناً صغيراً تحت عين الأمير".

هكذا، وكما أن المسرح يضيء شخصية بورقيبة، فإن هذه الشخصية تضيء هي الأخرى عوالم الفن الرابع في تونس وتفسّر جزءاً من مساراته وتأثّراته بإرادة الزعيم السياسي.

لا يقف العمل عند حدود زمنية أو تاريخية، فنجده يسافر بنا من تونس إلى الكاف، ومن فرنسا إلى إيطاليا فالعودة إلى تونس، أو نلتقي بشخصيات بونابرت وشكسبير وراسين وحبيبة مسيكة، وكأن المسعودي استفاد هو الآخر من فلسفة العرض الفرجوي الحديث في تصوير شخصية بورقيبة.

من نفس القسم الثقافي