الثقافي
حياة ألبير قصيري في سيرةٍ أولى
ومن هذه السيرة يتبيّن لنا أن قصيري طبع بعمقٍ كل مَن قرأه والتقى به
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 20 جانفي 2019
في سيرة ألبير قصيري التي صدرت حديثاً عن دار "كورلفور" الباريسية بعنوان "السيد ألبير"، يخطّ الفرنسي فريديريك أندرو بورتريهاً مثيراً لقصيري يظهر فيه ككاتب غير نموذجي بقلّة كتبه، بمواضيعه المفضّلة وبنمط حياته.
ولخطّ هذه السيرة اعتمد أندرو صيغة المخاطَب، فأتى نصّه على شكل حوار متواصل مع قصيري سمح له بسرد حياته الطويلة بطريقة شيّقة ودقيقة مانحاً قارئه تفاصيل غزيرة - وغالباً مجهولة - تساعد على فهم شخصية قصيري وعبقريته.
ومن هذه السيرة، يتبيّن لنا أن قصيري طبع بعمقٍ كل مَن قرأه والتقى به، بفرادته وحضوره الرزين، علماً أنه خضع لإهمالٍ غير مبرر من قبل معاصريه. كما يتبيّن لنا أنه كان هامشياً متحفِّظاً وإنساناً حرّاً بشكلٍ مطلق انعتق من الأعباء والإكراهات الاجتماعية، واحتقر فكرة العوز فرفض براديكالية تضييع وقته في عملٍ لتأمين لقمة العيش، رغم وضعه المادي الضيّق. ولأنه اختار ألّا يكون عبداً لشيء أو لأحد واستسلم لفن "البطالة الهانئة" الصعب وبقي حتى النهاية وفياً لقناعاته، مفتوناً بالخِدر ومنصرفاً إلى مذهب الحلم والمتعة؛ ترك أثراً فريداً لا يمّحى.
ومن هذه السيرة نعرف أيضاً أن قصيري عاش الستين عاماً الأخيرة من حياته في غرفة صغيرة بفندق باريسي، وأصدر ثمانية كتب فقط، وبذل وسعه لمنح الانطباع بأنه لا يفعل شيئاً. لكن أكثر ما يشدّنا في هذه السيرة هو تركيز المؤلف داخلها على سلوك قصيري الطليق ولا مبالاته. فمضمونها يعجّ بتفاصيل وطُرَف حول الطريقة التي كان يمضي فيها وقته في مقاهي جادّة "سان جيرمان" قبل أن يقفل عائداً كل مساء إلى غرفته.
وفي هذا السياق، نطّلع على نزهاته الليلية ولقاءاته الثابتة بألبير كامو وتسكّعه الطويل في حدائق "اللوكسمبورغ"، كما نتابع مسلسل علاقاته بكتّاب عصره ونجوم المسرح والسينما.
باختصار، نقرأ هذه السيرة كزيارة حميمة لعالم قصيري وكمحاولة ممتعة لتسليط الضوء على عاداته وصفاته، كفكاهته التي رافقت دائماً نزواته الكثيرة، وافتقاده لأي حسّ دبلوماسي، وأناقته اللافتة التي لم تنل منها شيخوخته ودفعته غالباً إلى حثّ أصدقائه بطرافة على شراء مستلزماتها له.
ومن الأمور الأخرى المثيرة التي نتعلّمها داخل السيرة: تأثّر قصيري بوالده في ما يتعلق بنظرته إلى الكسل كترفٍ، وشعوره باكراً بأن الطموح الوحيد الجدير بالتحقيق هو الكتابة، وشغفه الشديد والباكر ببودلير الذي لا يظهر فقط في القصائد التي كتبها في سن المراهقة، بل أيضاً في فن الحياة الذي مارسه طوال حياته والمرصود حصراً لتعبّد المرأة والجمال.
ولا يهمل المؤلف مسار قصيري الطويل بل يتوقف عند أبرز مراحله، بدءاً بطفولته في القاهرة، ومروراً بالمغامرة السوريالية في مجموعة "فن وحرية"، وباستقراره في باريس عام 1945 حيث عَرف بسرعة شهرةً كبيرة بفضل دعم هنري ميلر وألبير كامو له، وعاش حياةً ليلية مليئة بالمغامرات برفقة جان جينيه وروجيه نيميي وميشيل بيكولي وجولييت غريكو؛ وانتهاءً بأيامه وساعاته الأخيرة التي يسردها أندرو بطريقةٍ تجعلنا نعيشها بكامل لحظاتها.