الثقافي
عبدالله حبيب.. في أثر "فاطْمَهْ"
يستعين الشاعر بالإحالات في نصّه التي تظهر كخلفيات لمشاهد سينمائية
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 18 جانفي 2019
يشير الشاعر العُمانيّ عبدالله حبيب في بداية نصّه "فاطْمَهْ" (دار الانتشار العربي 2014) إلى ضرورة قراءة عنوان النصّ بالدارجة العُمانيّة حسب التشكيل الوارد وليس بالفصحى "فاطِمة"، ربّما ليحافظ على الحميميّة التي تستبطنها اللهجة عند التصريح بالاسم ولفظه.
يقتصد حبيب في كلماته، يكثّف المعاني والصور، ويفسح المجال للقارئ كي يتملّى بياض الصفحة، باكتفائه ببضع كلمات في معظم الصفحات. وهو بذلك يمنح الجملة الشعريّة إمكانيّة التمدّد على طول الصفحة وعرضها، والانفتاح على آفاق الفراغ الشعريّ الموظّف شكليّاً في الكتاب.
البياض ليس عدوّ السواد الذي تكتب به الكلمات، بل هو قرين الشكل، لوحة تكتمل معنى ومبنى بالتفاصيل. هكذا يترك حبيب فرصة للبياض كي يكون مرساله، بالتزامن مع صوره وتورياته وسياحاته في عوالم النصّ والحياة.
يستعين الشاعر بالإحالات في نصّه التي تظهر كخلفيات لمشاهد سينمائية يحضّرها وكأنه يكمل رسم حلمه بامرأة "لديها ما لدى النساء/ وما من امرأة أخرى لديها ما لديها". يستهلّ إحالاته بمقولة حافظ الشيرازيّ: "السائل في جادتك غنيّ عن جنات الخلد، وأسير عشقك متحرّر من كلا العالمين"، ثمّ يرجع إلى أغنية "على جسر اللوزيّة" لفيروز، فإلى أغنية "أحبّكْ لو تكونْ حاضر" لطلال مدّاح. وينتقل إلى عالم الصوفيّة حين يكتب: كلّ الحروف "ثاء"، في إشارة إلى مقولة "الألف سيّد الحروف" لابن عربيّ في "الفتوحات".
يتكتّم الشاعر على اسم "فاطْمَه"، يكتفي بالأوصاف المعبّرة عنها والمستحضرة جمالها وتفاصيلها، ويكون التصريح الوحيد باسمها، بعد الإهداء، في ذروة الجمع بين الأزمنة، حيث الفعل الماضي "أتت" والزمن القادم "فيما بعد"، وما يعنيه الأمر من استحالة وتعذّر. "فاطْمَهْ أتت دوماً فيما بعد". ويُرجع الإحالة إلى مقولة "لقد كان ثوريّاً، والباقي يأتي فيما بعد" لفردريك إنغلز من الخطاب الوداعيّ أثناء دفن كارل ماركس. ويتوسّع في الإحالات لتكون الكلمة الواحدة ملخّصة معاني جملٍ لآخرين أو مذكّرة بها، مستوحية إياها، كقوله: "رعب، رعب، رعب" وإحالته المرجعيّة إلى مقولة: "ما الجمال إلّا بداية الرعب" لريلكه في "مراثي دوينو".
في نصّه "فاطْمَهْ"، يدمج صاحب "صور معلّقة على الليل: محاولات في السينما والشعر والسرد" بين تقنيات الشعر والسرد والفنّ السابع، مستلهماً من السينما التي هي شغفه وله فيها العديد من التجارب، سواء إبداعاً أو نقداً ("شاعر"، "حلم"، "رؤيا"، "تمثال"، "هذا ليس غليوناً")، وممسرحاً بعض المقاطع، ليُبقي التفاعل مع النص مشرعاً من بدايته إلى نهايته، لا يقطّع المشاهد ولا يختار عناوين فرعيّة. يناجي "فاطْمَهْ"، يناديها، يستصرخها، يكشف لها عن ضعف العاشق وقوّته في الوقت نفسه: "انتظرتها كأنّها أمّي/ وهي نزّهتني عن محبّة الأشقّاء". يجمع في ندائه لها بين جمالية الشوق وتعريفه للشعر: "تعالي/ اشتقت إليكِ/ والشعر غدرُ العِبارة".
"فاطْمَهْ" امرأة تجمع النقائض في شخصيّتها، تختصر النساء، تكون قافلة من البشر، حشداً من الأنوات المتمرّدة، ثورة عاشق وبستان بوحه. يلجأ الشاعر من أجل توصيفها إلى الثنائيّات المتقابلة المتضادّة، والتي من شأنها أن تزيد الغموض حول شخصيّته الشعرية المنتقاة؛ أكثر من التعريف بها، فهي الذاكرة والنسيان، الكمال والنقصان، العتمة والضوء، الفوز والخسارة، الإقبال والإدبار، الأمل والقنوط، الغياب والحضور، السرّ والعلن. في مخاطباته لها يقول: "التقيتك/ في الأثَر/ وسأنساك/ في الأثر".