الثقافي
سأكون بين اللوز.. قوة البدايات
المسألة التي شغلت بال "حسين" أثناء مرضه لم تكن تتعلق بزمن موته أو بالطريقة التي سيموت بها
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 15 جانفي 2019
من النادر أن نعثر باللغة العربية على نصٍّ سردي يمكن مقارنته، شكلاً أو مضموناً، بنص حسين البرغوثي (1954 ـ 2002)، "سأكون بين اللوز" (بيت الشعر الفلسطيني، 2004). إذ ينفرد هذا النص بنبرته الرقيقة الملهَمة، وأيضاً بتلك الشفافية النادرة التي يتناول بها جوانب من هواجسه الشعرية والفلسفية والسياسية والروحية.
"سأكون بين اللوز" يستحضر الكتاب السيري الأول للبرغوثي، "الضوء الأزرق" (بيت الشعر الفلسطيني،2001)، الذي رصده لتجربته في الولايات المتحدة. ففي النصّين نستنج الأسلوب الكتابي نفسه ولجوء الكاتب إلى سيرته الذاتية كمادّة أدبية بامتياز. لكن ما ينفرد به نصّه الأخير هو إدراك البرغوثي لدى كتابته بدنو أجله نظراً إلى إصابته بمرض السرطان. إدراكٌ يتجلى على طول النص ويمنحه هالةً خاصة.
ومن هذا المنطلق نفهم رغبته في العودة داخل هذا النص إلى تلك المنطقة الجبلية الخلابة المحيطة بمدينة رام الله حيث وُلد وترعرع، بعد سنوات طويلة من الانقطاع عنها؛ وفي التنزّه معنا بين أشجار اللوز التي زرعها والده حول المنزل العائلي عام 1948، ودُفن الكاتب في حقلها وفقاً لمشيئته. نزهةٌ نتعرّف فيها عن قرب إلى تلك التلال الغالية على قلبه ونتابع تأمّلاته المؤثّرة "حول البدايات والنهايات".
وبإعادة إحيائه ذاكرة هذا المكان المحاصر اليوم بالمستوطنات الإسرائيلية، أراد البرغوثي أيضاً طرح سؤالٍ جوهري عمّا يمكن للمستوطن اليهودي القادم حديثاً من روسيا أو إستونيا أن يراه حين ينظر إلى هذه التلال التي يعود تاريخها إلى بداية الأزمنة؛ مؤكّداً عدم قدرة هذا الأخير على بلوغ هذا التاريخ الذي يعج بالقصص الحقيقية والأسطورية التي لا يعرفها إلا من عاش في هذه المنطقة جيلاً بعد جيل، ومبيّناً بالتالي خيانة هذا التاريخ المهدَّد اليوم بالإندثار.ولإبعاد شبح هذا التهديد، ينطلق الكاتب في سرد بعضٍ من هذه القصص، كقصّة أخواله الذين قطنوا "الدير الجوّاني"، وعلى رأسهم قدّورة عازف الربابة؛ وقصة علي الراعي الذي كان يعزف على الناي بلا ناي، مستعيناً بفمه فقط، ويعرف رائحة أو طعم كل نبتة في المنطقة؛ وقصة الغولة التي كانت ترويها الأمهات لأطفالهن؛ وقصة القمر القادر، وفقاً لأسطورة تعود إلى ما قبل الإسلام، على تخصيب النساء اللواتي يتعرّضن لأشعّته، إضافة إلى قصص أخرى كثيرة أبطالها ثعالب وضباع وكائنات غير مرئية.