الثقافي

إطلالة على العالم من "كوّة" ساراماغو

لا أحد مُجبَر على حبّ أي شيء، لكننا جميعاً مجبرون على احترام بعضنا بعضاً

كان جوزيه ساراماغو (1922 ـ 2010) يحلق ذقنه حين رن الهاتف. وضع السمّاعة على خدّه غير المطلي بصابون الحلاقة وتلفّظ ببضع كلمات: "حقاً؟ هذا مذهل!"، ثم "لا تزعجوا أنفسكم، سأكون عندكم في أقل من نصف ساعة".

لم يحلق ساراماغو ذقنه أبداً بالسرعة التي حلقها ذلك اليوم، قبل أن يتوجّه إلى إحدى دور النشر لاستعادة رواية كان قد كتبها بين عامَي 1940 و1950 وضاعت مخطوطتها الوحيدة منذ تلك الفترة. وبعد أقل من ساعة، عاد إلى منزله وفي يده كدسة أوراق لم تصفّر أو تتلف بفعل الزمن. وكأن الزمن كان أكثر احتراماً للمخطوطة من أولئك الذين استلموها عام 1953.

الرواية المفقودة هي "الكوّة" (Claraboia)، وجميع الذين قرؤوها بعد العثور عليها حاولوا إقناع صاحبها بضرورة نشرها، لكنه كان يرفض بعناد قائلاً إن هذا الكتاب لن ينشر طالما هو على قيد الحياة، ومذكّراً بإحدى قواعد حياته التي لطالما كتبها وذكرها في مناسبات عديدة: لا أحد مُجبَر على حبّ أي شيء، لكننا جميعاً مجبرون على احترام بعضنا بعضاً. وباستحضاره هذه القاعدة، أراد ساراماغو أن يقول إن أي دار نشر ليست مجبرة على نشر المخطوطات التي تستلمها، لكن من واجبها الرد على أصحاب هذه المخطوطات الذين ينتظرون الجواب، يوماً بعد يوم، وشهراً بعد شهر، بفارغ الصبر والقلق.الكتاب، بالنسبة إلى ساراماغو، هو أكثر من مجرّد كلمات مكتوبة. إنه يتضمن كائناً بشرياً بذكائه وحساسيّته. من هنا المذلّة التي شعر بها وهو شاب لعدم استلامه جواباً، ولو سلبياً، من دار النشر، وعاد ليشعر بها من جديد بعد استرداد مخطوطته الضائعة. ومن هنا بالتالي رفضه لنشرها قبل وفاته، وتركها على مكتبه بين آلاف الأوراق، وعدم قراءتها من جديد، علماً أنه كان يعرف أن الرواية ليست سيئة، وأن بعض عناصرها ظهرت من جديد، وبشكلٍ متواتر، في أعماله الروائية اللاحقة، وعلى رأسها صوته السردي الفريد.

وبقدر ما نكرر أن هذه الرواية هي تحفة أدبية، بقدر ما تطرح الأسئلة نفسها علينا: كيف يمكن لشاب لم يبلغ الثلاثين بعد، أن يكتب بهذا النضج والثقة، ويكشف بهذا الشكل المبكر عن هواجسه الأدبية وخريطته الأسلوبية والعاطفية التي ستتجلى في جميع رواياته اللاحقة؟ من أين استمدّ هذه الحكمة وهذه القدرة على رسم شخصيات معقّدة بهذا القدر من الدقة والمهارة والاقتصاد السردي، وعلى إسقاط حالاتٍ بسيطة ومع ذلك عميقة وشاملة، وعلى انتهاك "قيم" مجتمعه بهذا العنف الهادئ؟

من نفس القسم الثقافي