الثقافي

بحثاً عن متعب الهذال

يمثل البذرة العربية الدفينة التي تقاوم كل محاولات الآخر للاختراق والهيمنة والسطوة وفرض الوصاية

تقدم رواية "مدن الملح" لعبد الرحمن منيف نموذجاً غير مسبوق لتحول المجتمع العربي من عصر الانغلاق إلى عصر الانفتاح على الآخر، وقد وضع منيف مدينتي "وادي العيون" و"حران" كنموذجين مصغّرين رصد من خلالهما ديناميكية هذا التحوّل التاريخي الذي استتبع في فلكه تحولات الشخصية العربية كلازمة مهمة لتحولات المكان.

لقد قاسى المجتمع العربي معاناة وشظف هذا التحوّل القسري إلى مستقبل مجهول والانصراف عن مرابع الصبا وذكريات الطفولة وموطن الأجداد. وفي هذا السياق، تلعب شخصية "متعب الهذال" في الرواية دور المتوجّس من الآخر والمرتاب من كل جديد، فيسرد الروائي كيفية وقوفه في وجه الأميركيين الذين جاؤوا بمعداتهم وآلاتهم للتنقيب عن النفط، بتنسيق مع السلطات الرسمية آنذاك. وقد بدا "متعب الهذال" غاضباً ومتوعداً وشاتماً الأميركيين في أول الأمر، قبل أن يتحوّل حنقه إلى قلق ويأس وصمت إثر تخاذل رجال القرية تجاه هذا القادم الغامض، فيغادر في ظل صمت رهيب وحزن تاركاً خلفه الأهل والأرض دون أن يكون لرحيله وجهة محددة.

ولا عجب في تمكّن منيف من رصد التحولات الإنسانية والمتغيرات البيئية، ومن تخليد مرحلة مهمة من مراحل المجتمع العربي بدقة متناهية، وهو الذي عاش جزءاً من هذه التحولات. كما لا عجب في جواب صديقه الكاتب جبرا إبراهيم جبرا على إرسال منيف له روايته فور الانتهاء من كتابتها:

"لا أظن أن كاتباً عربياً ـ روائياً أو غير روائي ـ كتب في الماضي شيئاً يقارب ما كتبتَ في هذه الرواية. وبعد أن كتبتها لا أظن أن كاتباً سيجرؤ على أن يكتب شيئاً مثلها في المستقبل. في الرواية نفس ملحمي لا أعرف مثله في أي عمل روائي عربي. إنه يذكّرني بالروايات الكبرى التي كتبت في الغرب في النصف الأول من هذا القرن. التأني، الاسترسال، الاتساع المستمر.. الانتقال الصعب والموجع من البداوة إلى النفط، أمور لم يلتفت إليها جدياً أحد، أو لم يرها بهذا العمق، وهذا الحب، وهذه اللوعة".

عانت أسرة "متعب الهذال" بعد رحيله المفاجئ أتعاب هذا الغياب الطويل والغامض، إلى جانب ما تضيفه الحياة من قسوة في العيش، فغادرت "وادي العيون"، ما ضاعف من آلامها، علماً أن شخصية "شعلان"، ابن متعب، كانت أكثر قبولاً وتماشياً مع هذه التحولات وتأقلمت مع الوضع الجديد.

إلى جانب "متعب الهذال"، تظهر في "وادي العيون" امرأة باسم "نجمة المثقال" تحذّر بدورها، داخل هذيانها، من مستقبل مجهول، فترفع حالة القلق وتكسر حالة الرضا والاطمئنان لدى أهل القرية وتحويل جو الرواية إلى توجس من الآتي وخوف من المستقبل.

 

من نفس القسم الثقافي