الثقافي
رحلة "عشيق المترجم" من حلب إلى روما
لا تحمل الرواية دعوة إلى عودة الماضي على نحو مطلق، كما تفعل السلفية الدينية، بقدر ما هي دعوة إلى التسامح والتعايش
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 05 جانفي 2019
بالحيرة، حيرة الشخصية بين حاضرها والماضي، يبدأ الكاتب السوري الكردي جان دوست (1965) روايته "عشيق المترجم" (دار ورق، 2104). تُفتتح الرواية بفصل "مرآة الحيرة"؛ حيث "يحار الترجمان من أين يبدأ حكايته: من رحلة الأسرة إلى حلب وهو طفل، أم من رحلته إلى روما وهو في السابعة عشرة؟".
يقرر المترجم العجوز، عشيق، أن يبدأها بقرار والده السفر، ثم يرجع بالزمن قليلاً ليسرد بداية قصة حبه لإيستر، ويتصاعد الزمن ليروي تفاصيل رحلته مع بقية الفتية وهم على متن السفينة. ثم يسترجع بعض ذكريات الطفولة في حلب.
تنقسم الرواية إلى كتابين، أنجز منهما الكتاب الأول الذي يبدأ بتدوين الفتى يونس بن إيبش الألباني لسيرة الترجمان العجوز، ولهذا هي أشبه بسيرة تعتمد اختيار الماضي كزمن تخييلي مرتبط بالدلالات التي تريد الرواية إيصالها إلى الزمن الواقعي، فيصبح الماضي حاضر القارئ.
ينسحب صوت المؤلف الحقيقي، دون أن يختفي تماماً، مفسحاً المجال للترجمان، فبعد تأجيل حكاية "مرآة الحيرة"، يبدأ السرد بحكاية إستر، الفتاة اليهودية التي وقع المترجم في غرامها وهو في سن المراهقة. في هذا الفصل يسرد لنا قصة حب مشتعلة بين عاشقين فرّقهما السفر إلى إيطاليا، لتعلم اللغة الإيطالية واللاتينية بأمر من والده، رشدي، ونصيحة من الراهب بولس.
يحاول الابن التملص من السفر بحجج واهية ثم يخبر أمه سارة، بحبه لإستر ورغبته في الزواج منها، لكنها، وهي المسيحية التي لا تفرّق بين المسيحيين واليهود، ترفض طلبه بشدة. لتتوالى بعدها حكايات تنقل لنا صوراً ومشاهد حية من ماض تقع حدوده بين زمنين، أو عصرين، لهما علاقة بما نكابده اليوم.
الراوي صياد مراوغ للحظة المتلقي، إلا أن هذه المراوغة لم تنقذ الرواية من الإسقاطات والدلالات، ففي مشهد السفينة الإيطالية وهي تبتعد عن ميناء قبرص متجهة إلى روما، أو الرحلة من الشرق إلى الغرب، دلالة يمكن أن نرى فيها بداية أفول عصر ونهضة آخر.وفي مشهد الفتية الأربعة أيضاً (سابا الزجال اللبناني، وجرجس المصري، ثم شمعون النصيبني، والفتى المسلم الوحيد)، وهم على متن السفينة في طريقهم إلى روما لتلقي العلم، ثم حدوث العاصفة، تذكير بأننا جميعاً: مسيحيين ويهوداً ومسلمين، عرباً وأكراداً؛ على سفينة واحدة هي سفينة الوطن. أما مشهد الصياد وهو يعطي الترجمان سمكتين من فيض صيده، فقد يكون مشهداً عادياً، لكنه يكتسب دلالة تعبر عن قيم عربية معروفة.
وفي ذكريات الترجمان عن حلب، يوم كان صبياً في الخامسة، صورة ستعيد إلى الذاكرة مشهد الحرب الدائرة اليوم هناك، لتطفر الدموع وينوء القلب بالحزن على حلب الأمس بجمالها وجلالها، وحلب اليوم. وهذا كله مرتبط بالإطار العام للزمن الذي ترصده الرواية في مقابل زمننا.
وبهذا المعنى، لا تحمل الرواية دعوة إلى عودة الماضي على نحو مطلق، كما تفعل السلفية الدينية، بقدر ما هي دعوة إلى التسامح والتعايش. فالرواية اجتماعية واقعية تقدم لنا شخوصاً لا يشبهون شخصيات الواقع المعيش، ذلك أنها شخصيات مستقاة من التاريخ الاجتماعي لبدايات القرن الثاني عشر الهجري، والنصف الثاني من القرن الثامن عشر الميلادي، تعرض لنا قيماً اجتماعية وثقافية وإنسانية مفارقة لقيم وثقافة مجتمعات اليوم.