الثقافي

شاعرٌ تبتكره الحرية

الحياة، الموت، الحرية، الحب؛ مواضيع تنبثق من اندفاعٍ حيوي واحد معادٍ للمأساوي واليأس

صفة "شاعر"، لِمَن يستحقّها بجدارة، قبل أن تعني شخصاً يجيد نظم الشعر وتطويع اللغة بمهارة، تعني إنساناً فريداً بحساسيته وبصيرته، وبالتالي بإنسانيته. هكذا نرى الشاعر المغربي عبد اللطيف اللعبي، إنساناً قبل أي شيء، اكتوى باكراً بنيران التاريخ، لكن بدلاً من أن يحترق، يسودّ، ييبس، ازدادت خضرته، ومعها، حدّة إدراكه.

في بداية مساره، عبر اللعبي مِحَناً كثيرة عرف كيف يستمدّ منها الأمل ويتقاسمه معنا. لكن ذلك وحده لا يفسّر إعجابنا به والموقع الفريد الذي يحتله في المشهدَين الشعريين العربي والفرنسي. الجواب يكمن أولاً في لغته التي تسمح له ببلوغ المقياس الدقيق لحقائق شاملة.

مشعّة، مندهشة، مشغولة دائماً بدقّة حِرَفي مبدع، تمسّنا هذه اللغة، وتهزّنا، ببساطتها المحيّرة وعمق مضمونها على حدٍّ سواء. جديد اللعبي اليوم مجموعتان شعريتان صدرتا حديثاً في كتابٍ واحد عن دار La Différence الباريسية. المجموعة الأولى تحمل عنوان "الفصل المفقود". نعرف فصول الطبيعة الأربعة، لكن ما هو هذا "الفصل الخامس"؟ ما أن نبدأ القراءة، حتى يتبيّن لنا أنه المجهول بذاته أو، كما يقول الشاعر، "الفصل الميتافيزيقي" الذي ينادي بـ"الحياة أو الموت".

ليست المرة الأولى التي يقارب اللعبي فيها هذا الموضوع في قصائده. لكن هذه المرة، نراه يتأمّل غياب المجهول بصفاء وطمأنينة ويتمنّى مجيئه. وفي هذا السياق، نجده يتذوّق وعود الدهشة التي من المفترض أن يحملها هذا "الفصل" معه، فيُسقط عليه ألوان حبّه وأحلامه بالحرية: "لنفترض/ حياةً/ نختلقها/ من ألفها إلى يائها". كما نجده يؤثّث هذا "المجهول" بثوراته لشعوره بأن "عهد الهمجيّة/ لا آخر له".

لكن لا مرارة في هذا الكتاب الذي تتجاوب فيه قصائد "فصل مفقود" مع قصائد المجموعة الثانية التي تحمل عنوان "حب جَكَراندا". فالحياة والموت والحرية والحب، مواضيع تنبثق لدى اللعبي من صراعٍ واحد، من اندفاعٍ حيوي واحد معادٍ للمأساوي واليأس. وفعلاً، تُسقط قصائد المجموعة الثانية في اللامتناهي حب الشاعر لرفيقة دربه، بفرحه وحيائه وضحكاته وجرأته. حبٌّ مؤثّر لم يقوَ عليه نصف قرن من الزمن والمِحَن، ويتناوله اللعبي بأرق العبارات وأجمل الصور، مستحضراً الرسائل المتبادلة واللغات المدجَّنة والأغاني المنشَدة، وأيضاً تلك اللفتات الصغيرة اليومية والنظرات والابتسامات التي ما برحت تضيء قلبه وكينونته.

أما لماذا عنوان "حب جَكَراندا" لهذه المجموعة؛ فلأن شجرة جَكَراندا الجميلة، مثل العشّاق، تزهّر في الربيع.. وتزهّر في الخريف.

 

من نفس القسم الثقافي