الثقافي

إدوارد سعيد.. شيخوخة المؤلف الفتية

يبحث أواخر أعمال جينيه وشتراوس ولمبيدوزا وفيسكونتي

هناك وقت لكل شيء، وما من وقت لشيء أيضاً، حين يتسارع الزمن فجأةً ويمضي بالمبدع إلى حتفه مخلّفاً وراءه الكثير مما كان سيصنعه ولم يفعل، أو إنه الموت يخطفه متوهّجاً من دون أن يهبه فرصة إكمال ما هو بصدده.

إنه كتاب المفكر الراحل إدوار سعيد "عن الأسلوب المتأخر" ما يوقظ ذلك، وقد صدر أخيراً عن "دار الآداب" بترجمة الكاتب اللبناني فواز طرابلسي، بعد أن صدر بالإنجليزية عام 2006. فارَق سعيد الحياة في 25 أيلول/ سبتمبر 2005 بينما كان يقول لزوجته مريم بأنه سيركّز على هذا الكتاب ليصدر في كانون الأول/ ديسمبر 2005، لكن الموت كما يقول بيكيت "لم يطلب أن نحجز له يوماً لا نكون فيه مشغولين".

يتناول الكتاب الأسلوب الفني الذي يأتي في المراحل المتأخرة من عمر المبدع، أو كيف يكتسي كلام كبار الفنانين وفكرهم في نهاية حياتهم "لغة جديدة". هذا هو المعنى الأولي لمفهوم "الأسلوب المتأخر" الذي تأسس عليه العمل، وفكرته كانت تدور في رأس سعيد منذ ثمانينيات القرن الماضي، تحاصره أطياف الفيلسوف الألماني تيودور أدورنو (1903 – 1969) الذي لا يغيب عن الكتاب إلا ليظهر من جديد، بل إن فكرة الكتاب برمّته مدينة لأدورنو الذي كان مؤرقاً بقوة الأسلوب المتأخر لبتهوفن، واصفاً إياه بـ "قوة سلبية.. فحيث يتوقع المرء الهناءة والنضج، يلقى تحدياً خشناً، عسيراً، ممانعاً، وربما غير إنساني".

ينفلت "التأخر" في الكتاب من المعنى الأولي، ليصبح مصيراً لا بد أن يطال الإبداع، ليس لأحد – حسب أدورنو – أن يفلت منه أو يتعالى عليه، "وكل ما يستطيعه المرء هو أن يعمّق التأخر". وفي هذا السياق، يمسي مفهوماً لا يتصل بالمراحل المتأخرة من العمر فقط، بل معبراً لعلاقة المبدع مع الزمن عموماً، والخروج عن الزمن ورفض الاتصال به، بحيث يصير "لا زمنياً"، كما هو الحال مع شاعر الإسكندرية كفافي الذي لم ينشر القصائد التي كتبها أثناء حياته في كتاب، واكتفى بنشر بعضها في صحف ومجلات. أما سعيد فيقول عن "أسلوبه المتأخر" بأن له "قوة الخيبة واللذة من دون أن يحلّ التناقض بينهما".

يختار المبدع أن يعود إلى عوالم خارج زمانه بالكامل، إلى "أسطورة قديمة أو إلى أنواع أدبية عتيقة مثل الملحمة أو إلى الطقوس الدينية القديمة، والمفارقة أن معنى الحداثة لا يبدو هنا حركة الجديد بقدر ما هو حركة شيخوخة ونهاية، إنه نوع من شيخوخة تتنكر بالشباب".يحتل الموسيقيون القسم الأكبر من الكتاب، وهو محتكم إلى معرفة سعيد العميقة بالموسيقى. فبعد بتهوفن، يطال "التأخر" شتراوس الذي يبدو مناقضاً تماماً في أعماله الأخيرة لما كانت تشهده أوروبا حينها، والمثال على ذلك أوبرا "كابريشيو" التي أنجزها عام 1941، وهي توحي بالاسترخاء رغم الأحداث المفزعة التي كانت تحيط بمؤلّفها من كل جانب.

أما أوبرات موزارت فيضعها سعيد في مقارنة مع أوبرات بيتهوفن وفيردي وروسيني، ليجد مؤلّفها مصوراً لعالم إباحي متيبّس أخلاقياً "لا تدجّنه ظروف التقوى أو احتمال الحقيقة".بانتقال سعيد إلى الكُتّاب، نجده يخصّص فصلاً صغيراً عن جان جينيه ومسرحيته "الستارة" (المسرحية معروفة عربياً بعنوان "البارافانات"، ترجمة حنان قصاب حسن، وبـ "السواتر" في ترجمة فوزية الدكالي) التي ستكون من أعمال جينيه المتأخرة، كما هي روايته "أسير عاشق".

وتتجلى في هذين العملين علاقة جينيه بالهوية وبالثورتين الجزائرية والفلسطينية، وبالتالي تخلّصه من الهوية بوصفها "العملية التي بها تفرض الثقافة الأقوى والمجتمع الأكثر تطوراً، نفسهما بالعنف على الذين يتقرر رسمياً أنهم أناس ينتمون إلى مرتبة أدنى، وما الإمبريالية إلا تصدير للهوية".ويمضي جينيه إلى الهوامش، أي إلى "أخطر خيار سياسي" في مرحلته المتأخرة، كما يقول سعيد، طارحاً أن يُفهَم اختياره "الجزائر أولاً في الخمسينيات، وبعدها فلسطين في الحقبة التي تلتها، على أنه فِعل جينيه التضامني الحيوي، وتماهيه الإرادي المنتشي مع هويات أخرى يتضمن وجودها ذاته نزاعاً خصامياً منهكاً".

ومع رواية "الفهد"، يوسّع سعيد من استراتيجيات "التأخر"، غير مكتفٍ بـ لمبيدوزا فقط وروايته التي كتبها لأنه "آخر المتحدرين من سلالة نبيلة عريقة تبلغ معه ذروة انطفائها الاقتصادي والجسماني"؛ بل يمضي خلف فيسكونتي أيضاً، لأن فيلم "الفهد" هو بداية المرحلة الأخيرة من أفلامه.

 

من نفس القسم الثقافي