الثقافي
إبراهيم عبد المجيد: القاهرة قبل كامب ديفيد
كأن الكاتب يحنّ إلى قاهرة السبعينيات أكثر مما يستعيدها
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 29 ديسمبر 2018
ارتبطت القاهرة في مخيلة القارئ العربي بروايات وأعمال نجيب محفوظ الذي خصص معظمها للحديث عن هذه المدينة وحكاياتها وشوارعها وناسها، وذلك إلى حد أصبحت أي رواية عن القاهرة تتم مقاربتها نقدياً بمدى اقترابها أو ابتعادها من الأفق المحفوظي. وقد ساهم النقاد العرب في تعزيز هذا التوجه الذي يعكس حاجتهم المتصاعدة إلى آباء في الأدب.
وفي هذا السياق، اندفع النقد العربي إلى تنصيب كتّاب وروائيين على رأس هذا اللون الأدبي أو ذاك، كل حسب اختصاصه. فبينما اعتُبر محفوظ فتوّة القاهرة وعميد الرواية العربية، نُصّب حنا مينا ربّاناً للبحر، ويوسف القعيد كاتباً لمحضر الريف والفلاحين، وتفرّد إبراهيم الكوني في تمثيل رواية الصحراء. لكن ما لم يخطر في بال هؤلاء النقّاد هو أن الأدب يقوم في جوهره على نقض الأبوة والسلطة.
ولعلّ أفضل دليل على ذلك هو الكاتب المصري إبراهيم عبد المجيد الذي انتفض على الموقع الذي حدّده النقاد له كروائي الإسكندرية، من منطلق ثلاثيته ("لا أحد ينام في الإسكندرية"، "طيور العنبر"، "الإسكندرية في غيمة")، من خلال اقتحامه عالم القاهرة في أكثر من رواية، آخرها "هنا القاهرة" الصادرة حديثاً عن "الدار المصرية اللبنانية".
في هذا النص، يعود عبد المجيد إلى قاهرة السبعينيات ليرصد التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي طرأت في عهد السادات بعد حرب أكتوبر، فيقدّم لنا عالم مثقفي اليسار واصطدامه بممارسات النظام المصري الذي ساد في البلاد حتى اتفاقية "كامب ديفيد".وفي هذا السياق، يتناول المظاهرات الطلابية والعمالية، متوقفاً عند التنظيم السري الذي ينتمي إليه بطل الرواية "صابر سعيد"، وأيضاً عند حياة شباب اليسار الليلية الصاخبة ومواجهته للتحالف بين اليمين الديني والنظام، وبالتالي عند تعرّضه للمطاردات والاعتقالات على يد رجال الأمن.
يرسم الكاتب صورة الحزن والإحباط التي غرقت فيها البلاد. فهذا شاعر يعرض ابنه للبيع في المقهى، وأولئك مثقفون يسرقون الكتب التي لا يملكون ثمنها من معرض الكتاب، من دون أن ننسى المرأة التي تفاوض سمساراً على مهرها ليقينها بأنه سيضعها، بعد زواجها منه، على طريق الدعارة. باختصار، حالة مزرية ومعمّمة ستبلغ أوجها بزيارة السادات للقدس المحتلة وتوقيع اتفاقية "كامب ديفيد".
في قاهرة عبد المجيد نصطدم بالثنائيات المتكررة في الأسماء؛ بدءاً باسم البطل "صابر سعيد" وصديقه "سعيد صابر"، ومروراً بمديره في العمل "عمر إبراهيم" الذي سيخلفه "إبراهيم عمر"، وانتهاءً بحبيبتيه صفاء الأولى وصفاء الثانية. كما يغوص بنا في عالم نسائي طيّب تلعب فيه بائعات الهوى دوراً مهماً، ويظهرن للقارئ على شكل حوريات؛ كما لو أن الكاتب أتى بهنّ من على شواطئ الإسكندرية كي يرحل بالقارئ إلى عوالم "ألف ليلة وليلة" السحرية، التي تشكّل البديل لما كانت عليه البلاد.وتشكّل الطيبة ملمحاً مشتركاً بين جميع شخصيات الرواية؛ فباستثناء السادات، لن نجد شخصية تمارس حقها في الشرّ الإنساني، وكأن الكاتب يحنُّ إلى ذلك الزمن أكثر مما يستعيده. حنين يجعلنا نرى الأشياء في صورة أجمل مما كانت عليه، ويدفع بعبد المجيد إلى أخذنا في رحلة جميلة إلى قاهرة الفن والمسرح والسينما، فنجلس معه لمشاهدة أفلام "أميرة حبي أنا" و"غاتسبي العظيم" و"الحي الصيني"؛ ونرافقه إلى عروض مسرحية لتوفيق الحكيم أو مصطفى محمود.
في رواية "هنا القاهرة"، نقع أسرى قدرة الروائي على السرد والتشويق، إذ يشدّنا إلى نصّه الطويل (500 صفحة) فنقلّب صفحاته دون أن نُغفل منها واحدة. ومع أنه يمكن تسجيل بعض الملاحظات على هذا النص، إلا أننا لن نندم على قراءته، وسنتعرّف فيه إلى قاهرة أخرى لم يكتبها نجيب محفوظ أو غيره.