الثقافي

بنعبد العالي: أشياء سبق الحديث عنها

الأنف أداة تمييز وإدراك، إنّه أداة نقد اجتماعية

يميل عبد السلام بنعبد العالي إلى التكرار، هكذا هي الكتابة بالنسبة إليه، مع ضرورة التمييز وإجلاء الفرق بين الإعادة والتكرار، كما يوضّح المفكّر المغربي في المقال الذي يفتتح كتابه الجديد "أشياء سبق الحديث عنها" (دار توبقال).

تحيل كلمة "أشياء" في العنوان تلقائيّاً إلى "اللاأشياء الفلسفية" التي تناولها الفيلسوف الدانماركي كييركيغارد سابقاً. تعبيرٌ فيه تخفيف لمكانة النص الفلسفيّ وكذلك للمؤلّف. إنه أمر معروف لقارئ كتابات بنعبد العالي؛ رغبته القديمة والمستمرة في التخفيف من هيبة الكتابة الفلسفية.

في "أشياء سبق الحديث عنها" يقارب إشكاليّات راهنة لفهم ما يجري في مجتمع الفرجة والتبدل والسخرية والخداع. ويُصدِّر الكتاب باقتباسٍ للكاتب الفرنسيّ موريس بلانشو: "من ذا الذي سيولي عنايته لقولٍ جديد، لقولٍ لم ينقل؟ ليس المهم أن نقول قولاً، وإنمّا أن نكرره، وفي هذا التكرار، أن نقوله مرة أخرى أول مرة".

لعلّ هذا هو قصد بنعبد العالي من أن أشياء كتابه قد سبق الحديث عنها، أي أنّها الآن باتت صالحة للّامتوقع الذي لا بدّ وأن ينبثق من خلال ديناميكية التكرار. وأنّ "ما يواجهنا اليوم إنمّا هو قديم مخبّأ في التّاريخ"، على حد تعبير دريدا. أما الإعادة فليست إلا حفرةً يلقى فيها الاختلاف حتفه، تخشِّب الكلام وتكلِّس اللغة وتكرِّس التقليد، أي أن فيها انغلاقاً للهويّة، بينما يكون في التكرار الخلاّق أفق مشرع لها.

لا يهدف بنعبد العالي من تأمّل أسئلة ظلّت تؤرّق الوعي الإنساني، إلى تبنّي أو تكريس تأويلٍ ما. يكتفي صاحب "الفلسفة فنّاً للعيش" بإشعال الفتيل. يجعل القارئ ينتبه، ليخلق بذلك مساحةً تمكّن المتلقّي من السباحة وحده في فضاء التأويلات، فيطرح تساؤلاً دقيقاً: هل للحقيقة رائحة؟ "تعودْنا أن يكون للحقيقة لون، بل صوت وطعم، فكنّا نسلّم بأّن المعاني يُنظر فيها وإليها، وأن الحقائق يُسمع صوتها ويُصغَى إلى "ندائها"، بل إنّها كانت "تُلمس" وتكون محلّ ذوق، إلا أنّنا لم نكن نسمع أن لها رائحة".

رائحة الحقيقة المسؤول عنها هنا، تذكّر بحالة "غرونوي"، بطل رواية "العطر" لباتريك زوسكيند، الذي كان "يرى بأنفه"، ويدرك الخير والشر، ويعيش عن طريق الشمّ. حاله كحال نيتشه الذي كان يقول، إنّ عبقريته تكمن في أنفه، فينسب للأنف ما يصفه الفرنسيّ ديكارت بـ"العقل السليم".وبالنسبة لبنعبد العالي، فإنّ الأنف أداة تمييز وإدراك للفروق، الفرق بين الصواب والخطأ، وأيضاً الفرق بين الصدق والكذب. إنّه أداة نقد اجتماعية، وهو ما به نؤسس أحكامنا التي تمكّننا من خلق قيم جديدة.

يحوم المفكّر في شذراته حول جروحٍ مفتوحةٍ دون أن يَدّعي أنّه يعالجها، إنه يحاورها ويضع أيدينا عليها. بالحديث عن شقاء المثقّف بعد الربيع، يُلمح إلى أنّ الواقع العربي يحتاج لا إلى تغيير أنظمة فحسب، وإنمّا إلى تحوّل ذهنيات، وأنّ المثقّف هو الذي يدرك أكثر من غيره أن تغيير الذهنيّات أكثر عسراً من تفجير الذرّة، على حد تعبير العالم أينشتاين.

ويستدعي مؤلّف "الكتابة بيدين" مقولة جيل دولوز عن "الخجل من أن تكون إنساناً". ينسب دولوز هذه العبارة إلى أحد الأدباء الإيطاليين (بريمو ليفي) الذي مرّ بتجربة مخيّمات "أوشفيتز"، ويعتبر أنّ لها دلالات كثيرة، فهي تعني: "كيف أمكن لأناسٍ أن يقترفوا هذا الفعل؟" لكنها تعني أيضاً: "كيف حصل أنّني اتخذت أمام ذلك موقفاً مهادناً؟ أنا لم أصبح جلاداً، إلّا أنّني أبديت ما يكفي من المهادنة كي أبقى على قيد الحياة". فحياتنا المعاصرة تعجّ بما يبعث على هذا "الخجل من أن تكون إنساناً". ونحن لا نفتأ نعقِد مع ما يدور حولنا تواطؤات مهادِنة تزيد من وطأة خجلنا وشدّته. صحيح أننا لسنا مسؤولين عن الضحايا، إلا أننّا مسؤولون أمامها.

تطرّق بنعبد العالي أيضاً إلى "الكذب السياسي" باعتباره لم يعد إتلافاً للحقيقة فقط، بل وإتلافاً للمعنى. فهو لم يعد يقتصر على المكر بالتاريخ نفسه، وإنما غدا يتخذ شكلاً "سلميّاً" "ديمقراطيّاً" في مجتمعاتنا المعاصرة، حيث أصبح، لا قضاء مبرماً على الواقع و"إتلاف وثائقه ومستنداته" فحسب، وإنما تفتيتاً للحدث وحلّه إلى وقائع جزئية تغيّب معناه وتذيب دلالاته.

 

من نفس القسم الثقافي