الثقافي

العنف والإنسان": مساءلة تبريرات "علمية"

يشتبك المؤلف مع الأفكار المتعارف عليها عن العنف

في فيلم "موت ستالين" (2018)، قدّم المخرج البريطاني الإيطالي أرماندو يانوتشي مشاهد هجائية للحقبة الستالينية، منها مشهد البداية الذي يحضر فيه أعضاء اللجنة المركزية وهم يتندّرون بوقائع تعذيب المعارضين كي يتمكنوا من إضحاك زعيمهم ستالين.

ربّما نعتقد أن هذا التعامل الخفيف مع العنف فرضته اعتبارات كوميدية في الفيلم، غير أننا نفهم ونحن نقرأ كتاب "العنف والإنسان، كيف يؤثّر العنف على البشر ويعيد تشكيل حيواتهم" للباحث الألماني المتخصّص في التاريخ المعاصر يورج بابروفسكي، أن حقولاً معرفية كثيرة تتعامل مع هذه الظاهرة البشرية بكثير من الاستخفاف والاستهتار أيضاً.صدر العمل مؤخراً عن "دار صفصافة" بترجمة علا عادل، وفيه يشتبك المؤلف مع الأفكار المتعارف عليها عن العنف، بداية من تعريفه وتفكيك العلاقة الوثيقة التي تربط بين الإنسان والعنف، خصوصاً في درجاته القصوى حين يتحوّل إلى مجازر ومذابح.

بابروفسكي متخصّص في الحقبة الستالينية، وهو هنا يطلعنا على أحد وجوهها: كيف اشتغلت آليات العنف داخلها؟ لكن أكثر من ذلك، تطرّق الباحث الألماني إلى مسألة تبرير العنف. هذا التبرير الذي قد يصل لتبرئة طاغية مثل ستالين أمام شعبه حيث يتعامل المؤلف مع فكرة التبرير كأمر خطير للغاية يتوجب التوقف أمامه بمنتهى الحذر.

يرى بابروفسكي أن التبرير الذي ينقذ صورة طاغية، وينقذ بالتبعية قيادات وجنود تلقوا الأوامر لتنفيذ العنف؛ يضع القيم الإنسانية للمجتمع المتحضر في مأزق لأنه يشكك فيها، فحين يسقط بعضهم في تبرير العنف يمكن أن نتساءل معهم: أي جدّية يتعاملون بها مع قيم مثل المروءة والشعور بآلام الآخرين والصدق؟

يلعب التبرير أدواراً خطيرة، فكلما وجد "الجلاد" تبريرات مقنعة وجد سبيلاً إلى التملّص من كل عقاب ممكن. هنا، يسرد بابروفسكي وقائع لجنود استطاعوا النجاة من عواقب ارتكابهم أفعالاً وحشية لأنهم استطاعوا تقديم هذه الأسباب المقنعة، بينما لم ينج آخرون ارتكبوا المستوى نفسه من الوحشية لأنهم لم يستطيعوا فعل ذلك. يقول: "لطالما قدّم أعوان الديكتاتوريين والطغاة بعد انتهاء أعمالهم الوحشية مبررات لإثبات أن إرشاداتهم وأوامرهم كانت تخدم أغراضاً معقولة".

في هذا السياق، يسخر بابروفسكي من أنه يجري في كثير من الأحيان حشو العنف والوحشية بدوافع نبيلة وأفكار مثل الضرورة والحتمية، وبهذه الطريقة يتم تمرير التبرير بشكل سلس، واستند بابروفسكي إلى أمثلة عدّة؛ منها إجابة تشارلز تايلور، رئيس ليبيريا الأسبق، على الاتهامات التي وجّهت له من الهيئة التي عقدت في لاهاي لمحاكمته على العنف الذي ارتكبه إبان الحرب الأهلية التي اندلعت في البلد الجار، سيراليون، حيث قال إن العنف كان هو الحل لإنهاء الحرب الأهلية. يعلق بابروفسكي هنا: "حتمية الحرب كانت هي الإجابة التي تمنح الأمر منطقاً حتى بعد سنوات طوال، فالفظائع تبرر ذاتها حين يستند الجناة إلى الضرورة والحتمية، ومن يخرق أعراف التبرير يصبح وحشاً في عين المدعي".

يعتبر الباحث الألماني أن علماء النفس كثيراً ما أدرجوا ممارسة العنف باعتباره نتاج مرض نفسي، وهنا يرى بأن ذلك يُعدّ مدخلاً لتمرير فكرة التبرير. ويبدو أن بابروفسكي يطمئن أكثر إلى رأي الفلسفة، وهو أكثر حزماً من علم النفس.

يسخر بابروفسكي أيضاً من مقولات عالم النفس الأميركي ستيفن بينكر ومن ادعائه بأن العنف لن يتحكم في الإنسان في عصر الحداثة، بل ستسيطر الحكمة والشعور بالتعاطف مع الآخرين، واعتبر بابروفسكي في نبرة تهكّمية أن أساتذة هارفرد عليهم - قبل وبعد نشر دراسات كهذه- أن يذهبوا بضعة كيلومترات بعيداً عن الحي الذي يقطنونه، ومن ثمّ مشاهدة العنف بأمّ أعينهم في أحياء ينتشر فيها العنف بشكل سافر، يصل في كثير من الأحيان إلى القتل للحصول على المال أو المخدّرات.

 

من نفس القسم الثقافي