الثقافي

لوكليزيو: حين يواصل الكاتب نسخ عوالمه

ظفر بلغة تفكّر بعمق وتنطق بسذاجة

في القسط الأكبر من قصصه القصيرة، ظلَّ الكاتب الفرنسي جان ماري لوكليزيو يصوِّب على أمكنة غير مألوفة، خارجة اجتماعياً على الأنظمة الكبيرة المعهودة لأفراد القرن العشرين. سينوغرافيات صغيرة، مهددة دوماً بزوالٍ، مبعثرة في أقاصي العالم، كالأمازون ونواحي أفريقيا والشرق الأوسط وضواحي باريس المدقعة.

في كل قصة يضع صاحب نوبل للآداب، لغتَه وجهاً لوجه أمام ذلك التقشف المعيشي. يُقَشِّر الكسوة الصلبة للشخصيات، ويتمسك بثوابتها الأخلاقية الدفينة أو رؤيتها العاطفية و"البريئة" إلى بيئتها.لربما كتب لوكليزيو على أطراف اللغة الفرنسية. لم يجد نفسه مضطراً إلى الخضوع لتراثها الكتابي النازع إلى تقديس المجاز وتركيب الصوت في العبارة. بدلاً من ذلك، ظفر بلغة تفكّر بعمق وتنطق بسذاجة. كما لو أنه ربّاها في الفناء الخلفي لمنطق الكتابة النازع إلى التفخيم والتباهي. لغة أوقعت بعض مترجمي قصص لوكليزيو، سواء إلى العربية أو الإنكليزية، في لغط أو ارتباك.

لكن من نال نوبل، لربما، ليس لوكليزيو وحده، بل كل تلك الشخصيات المهملة التي وجدها تقطن بدورها الفناء الخلفي للجنان الإسمنيتة المأهولة بملايين البشر ممن تتشابك حيواتهم وتتصارع مطامحهم. هناك ظل يناور، حتى أصبحت اللغة نفسها كياناً حياتياً، نتلمسه، واستراتيجياً للنفاذ إلى الكيفية التي تقرأ بها شخوصه البيئة المحيطة بها، وتعالج ما يحيط بها من أحداث.

وهي أحداث غالباً ما تكون منمنمة، تتحرك على جلد المغامرة أو الحُلم البسيط أو العلاقات الاجتماعية، وتستدرج العالم الكبير، ليسقط منهكاً أمامها. بذلك، فإن لوكليزيو يمنح شخصياته، وبالأدب، السلطةَ التي تكون الحياةُ قد سلختها عنها إلى الأبد.مجموعته القصصية "قلب يحترق وقصص أخرى" (دار التنوير/ دار الأمان، ترجمة عبد الرحيم حزل)، تقدّم شخصيات تبدو كأنها منسوخة عن شخصيات مؤلفاته السابقة. لكن، بسحر أقل، إذا أمكن القول، كما لو أن العالم المهمل يواصل تناسخه منتجاً صيغاً باتت مألوفة، أو أسوأ، أو بشغف أقل بالحلم أو المغامرة أو الاحتكاك بالطبيعة. لكن ما لا شك فيه، أنّ لوكليزيو بات كليشيه نفسه، وكربونَ المنطق الكتابي الذي ابتدعه.

فالحياة، بمكوّنيها الطبيعي والمُستحدث، تُردّ إلى جذورها، إلى عناصرها الأولى، وتصبح كل ظاهرة أو حركة للناس أو الريح أو ملامح البيوت الفقيرة ومقاصد الصبية والفتيات عرضة للتفكيك ضمن رؤيا "بدائية" تجاوزناها أو ظننا بأننا تجاوزناها، فتكسر الشخصيات كل نزعة اجتماعية ضاغطة عليها، وتصنع فلسفتها الخاصة، القائمة على الإصغاء للذات، معزولة كانت أم ضمن جماعة.

 

من نفس القسم الثقافي