الثقافي

عزمي بشارة.. استقصاء العلمنة

سياق نشوء العلمانية هو نفسه سياق نشوء الدولة الحديثة

وضع عزمي بشارة أمامه، كما يصرّح بذلك في تقديم الجزء الثاني من "الدين والعلمانية في سياق تاريخي"، تحدّي "قول شيء جديد". من هنا يخوض المفكّر العربي، مع قارئه، رحلة بين أزمنة وفضاءات (أوروبية بالأساس) ليعود بالمفاهيم مفككة وواضحة الأبعاد والأصول. 

يبدو أن متابعة صيرورة نشوء العلمانية ومناخات صعودها الفكرية والثقافية، إضافة إلى تقديم رؤية نقدية، فرضت أن يكون الجزء الثاني بهذه الضخامة (مجلد أول من 900 صفحة وثان من 500 صفحة). وإن الصعوبة التي تنشأ أمام هذا الوضع، للكاتب والقارئ في آن، حاول المؤلف أن يتجاوزها بمنهجية طرح وتبويب تسعف القارئ؛ حيث أن كل فصل يسبقه ملخص لبنيته، يشكل خريطة قبل دخول متاهات التقصي التاريخي وتتبّع التطوّر البطيء للعلمانية.

يصف بشارة عملية التطوّر هذه بالمسار "المتعرّج وحتى اللولبي والحلزوني لتطوّر الفكر الأوروبي في ما يتعلق بمقاربة العلاقة بين الدين والعلم والسياسة"، وكأنه بذلك يشير إلى القارئ أن يتعوّد على المشي على حبلين: تطوّر الأفكار في إطار ديني من جهة، وعملية دنيوة الفكر الديني (جعله دنيوياً) من جهة ثانية، حتى الوصول إلى زمن ظهور ثقافة منفصلة عن الدين.

يدرس المؤلف آليات هذا التطوّر، إذ يقول "إن هذه العمليات لا تتم كعمليات انفصال وحسب، بل كوحدة وتمايز وانفصام، ووحدة من جديد". وهو ما يتطابق مع الفرضية التي انتهى بها الجزء الأول من العمل، كون المجال العلماني في الحداثة صار هو الذي يعرّف المجال الديني، أي يحدّده. ويشير: "هذه ليست قرارات أو مواقف وإنما عملية تطوّر تاريخي". هكذا، يؤكد لنا ضمنياً أن كل مرحلة في التاريخ بات استحضارها ضرورياً لفهم ما يحدث اليوم بما هو نتيجة لهذا التطوّر.

تمثل الكنيسة مؤسسة محورية لفهم العلمانية. ينظر بشارة إليها كنمط تلاقي الجماعة الدينية المسيحية مع البنية الإمبراطورية الهرمية للكيان السياسي الروماني. ويلاحظ المؤلف أن المسيحية "لم تُنشئ دولة على عكس الإسلام واليهودية بل تغلغلت في كيان سياسي قائم هو الإمبراطورية الرومانية"، فقد "نشأت منفصلة عن الدولة الرومانية ثم ورثتها بعد ذلك". وفي لحظة ما من التاريخ، تحوّل ثراؤها ونفوذها إلى "بيئة ترعى ثقافة دنيوية في موضوعاتها وتوجّهاتها".

يمرّ هذا التطوّر بمرحلة الحروب الصليبية، التي بدأت كرد فعل على توسّع المسلمين، قبل أن تتحوّل إلى طموح بتوحيد أوروبا خلف فكرة دينية. ويمثل احتلال القدس عام 1097 لحظة فارقة، حيث اكتشفت أوروبا "أوروبينتها المسيحية" حين التقت بالمسيحية الشرقية، وهي لحظة لـ"تديين السياسة" والتي عنت، أيضاً، "دنيوة الدين أي بعبارة أخرى علمنته".

ففي إطار فشل الحروب الصليبية، بدأ الملوك ينازعون سلطات الكنيسة التي استخدمت التآمر السياسي، ما أيقظ نزعة مضادة لها، تحت غطاء استنكار ثروتها وأبّهتها، وهكذا "انتشرت الكراهية للباباوية منذ أن أصبح لها خصوم سياسيون".

توافق التململ الملكي ثم الشعبي من هيمنة الكنيسة، مع بداية الصراع بين منطق النظام الرأسمالي (ظهرت بواكيره في المدن الايطالية) مع الأسس الأخلاقية والفكرية التي تفرضها الكنيسة، مثل قواعد الاقتراض واستعمال اللغة اللاتينية.

 

من نفس القسم الثقافي