الثقافي

إيمانويل تود: خلف قناع كلّهم شارلي

الإجماع الفرنسي الذي روّجه الإعلام خلق مناخاً توتاليتاريا

مرّ زمن طويل لم تشهد فيه الساحة الفكرية الفرنسية هيستريا جماعية كتلك التي فجّرها أخيراً كتاب المؤرخ والمفكر الفرنسي إيمانويل تود "من يكون شارلي؟ سوسيولوجيا الأزمة الدينية".

 كما مرّ زمن لم يدخل فيه مفكر فرنسي معترك السياسة بهذا الشكل الجذري منذ أيام ميشال فوكو وجيل دولوز وغيرهما من المفكرين الكبار ممن كرّسوا مفهوم المثقف الفرنسي الشامل الذي يعانق تحوّلات عصره.

لكن ما الذي كتبه تود في دراسته هذه كي يجلب كل هذه الضجة الفكرية والسياسية العنيفة؟ فكرة الكِتاب الأساسية هي نزع الهالة التقديسية التي أسبغها الفرنسيون من كل الأطياف على مظاهرات 11 يناير/كانون الأول الماضي، حين خرجت عدّة مظاهرات مليونية في كبرى المدن الفرنسية بعد جرائم باريس التي استهدفت أسرة تحرير مجلة "شارلي إيبدو" الساخرة ومتجراً يهودياً، وأسفرت عن مقتل 17 شخصاً. خرجت هذه المظاهرات الضخمة التي دعت إليها الطبقة السياسية وعلى رأسها الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند تحت شعار الدفاع عن حرية التعبير وتنديداً بـ"الإرهاب الإسلامي".

واعتبر تود أن 11 يناير مجرد خدعة وكذبة كبرى تخفي وراءها إيديولوجية إقصائية عنيفة. ووجه انتقاداً عنيفاً للنخبة السياسية الحاكمة التي حشدت الجموع باسم الدفاع عن مبادئ الجمهورية، حرية التعبير والعدالة والمساواة، في حين أن فرنسا، بحسب المفكر، خانت منذ عقود هذه المبادئ.ارتكز تود على معطيات إحصائية دقيقة للبرهنة على غياب صارخ لشرائح العمال وسكّان الضواحي والمهاجرين في تظاهرات شارلي، وأن الذين خرجوا في هذه التظاهرات ينتمون في غالبيتهم الساحقة إلى النخب السياسية والثقافية والطبقة المتوسطة، وهي الشرائح نفسها التي تقبل بالفوارق الطبقية الصارخة والتمييز الاجتماعي ضدّ الشرائح الفقيرة، وتكديس المهاجرين في "غيتوهات" الضواحي المعزولة وهي الشرائح التي صارت تتبنى بلا مواربة الإسلاموفوبيا ومعاداة الأقليات المسلمة.

وأفرد تود فصلاً كاملاً في كتابه لتبيان كيف أن الغالبية الساحقة للمتماهين مع "شارلي" ينحدرون من أوساط عائلية متشبعة بالثقافة الكاثوليكية، مسجلاً أن الكنيسة المسيحية وقفت تاريخياً ضدّ مبادئ الثورة الفرنسية وقيم الجمهورية.كما لفت تود الانتباه إلى أن تكريس العنصرية والإسلاموفوبيا نحو المسلمين هو المحرّك الأساسي لشيوع معاداة السامية واليهود في أوساط المهاجرين والشبان المسلمين والعرب من سكان الضواحي الفقيرة. ويتساءل في مقطع قوي من الكتاب: "بأيّ حق تنادي الحشود بحرية تشويه النبي محمد في رسوم كاريكاتورية، وأي منطق هذا الذي صار يجعل من تشويه صورة الإسلام والمسلمين حريةَ تعبير؟".

إنها "أوليغارشية الحشود" كما يسميها تود التي تستعرض عضلاتها على أقلية من المسلمين والعرب، وتصرّ على تحميلهم مسؤولية الأزمات التي تعصف بالمجتمع الفرنسي على كل المستويات خلف قناع "كلنا شارلي".يقرّ تود بأن الأجواء التي واكبت تلك التظاهرات، و"الإجماع" الوطني الذي روجت له وسائل الإعلام، خلق مناخاً "توتاليتاريا" لدرجة أنه أحجم عن الإدلاء برأيه لوسائل الإعلام. وأن القرف من هذه الأجواء المشحونة جعله يشعر لأول مرة في حياته بأنه ليس فخوراً بكونه فرنسياً.

ويعتبر تود أن فرنسا تعاني أزمة وجودية خانقة وكآبة روحية جارفة، سببها تقهقر المسيحية واختفاء أشكال الإيمان الميتافيزيقية وسيادة الإلحاد، وأنّ المجتمع الفرنسي يملأ حالياً هذا الفراغ الميتافيزيقي بإديولوجيا جديدة عنوانها الأساسي الإسلاموفوبيا والتهجّم على الإسلام والمسلمين.

 

من نفس القسم الثقافي