الثقافي

حقّان غونداي يُشرِّح مؤسّسة الجيش

يلجأ المؤلف إلى عناصر حميمة من سيرة عائلته كاشف على تاريخ بلده الحديث وتناقضات مجتمع تركي

هل يمكن لحلمٍ مزعج أن يحوّل حياة شخصٍ ما إلى كابوس ويدفع به إلى حافة الجنون؟ هذا ما يجيب عليه الكاتب التركي الشاب حقّان غونداي (1975) في روايته التي صدرت ترجمتها الفرنسية حديثاً عن دار "غالاد" الباريسية تحت عنوان "زيان"؛ ويلجأ المؤلف فيها إلى عناصر حميمة من سيرة عائلته لإلقاء ضوءٍ كاشف على تاريخ بلده الحديث وتناقضات مجتمع تركي مسكون بماضيه. بطل هذه الرواية (430 صفحة) شاب في العشرين من عمره يؤدّي خدمته العسكرية في شرق تركيا، حيث يقوم الجيش بمراقبة السكان الأكراد ومطاردة عناصر حزب العمّال الكردستاني ومحاربة عمليات التهريب على الحدود. وبما أن مهمة هذا الشاب الأساسية هي الحراسة، نجده يعاني كل يوم من البرد والعزلة والأرق. وخلال إحدى مناوباته الليلية، يحضر رجل أمامه ويبدأ بمحاورته. وبعد فترة قصيرة، يتبيّن له أنه الشخص الوحيد من فرقته الذي يرى ويسمع هذا "الشبح" الذي يؤكّد له أنه "زيا هورسيت"، الرجل الذي اُعدِم شنقاً في العام 1926 لمشاركته في محاولة اغتيال مصطفى أتاتورك. وقبل أن نعرف إن كان الجندي يعاني من هلوسة ناتجة عن تعبه وهبوط حرارته، أم من عارض جنون سببه ذهنه المعذَّب؛ ينطلق "زيا" في سرد قصته له متوقفاً أولاً عند سفره إلى ألمانيا في بداية القرن الماضي واكتشافه الطلائع الفنية في مدينتَي برلين ودانتزيغ، أثناء دراسته؛ وعند الصراع الذي كان دائراً آنذاك داخل البحرية الألمانية التي خدم فيها وشارك على متن إحدى سفنها في معركة "سكاجرّاك" الشهيرة؛ ومنتقلاً بعد ذلك إلى فترة اجتياح جيوش الحلفاء للإمبراطورية العثمانية وتقطيع أوصالها، ثم إلى لقائه بأتاتورك ودوره في حركة التحرير وإعادة إعمار بلده. وبالتالي إلى الأمل الكبير الذي اعتراه بالجمهورية التركية الجديدة؛ قبل أن تحلّ الخيبة مكان الأمل مع صعود طبقة سياسية جديدة بعيدة كل البُعد عن مُثُله، ما يضعه أمام خيارٍ وحيد هو اغتيال أتاتورك لإنقاذ وطنه. وحول موضوع روايته، يقول غونداي، الذي يُعتبَر اليوم "الابن الرهيب" للأدب التركي: "زيا هورسيت الذي أُعدم هو عمّ جدّي (من جهة أبي). وقصته سحرتني إلى حد أردتُ فيه الكتابة عن هذا الرجل الذي تجرّأ على التعرّض لـ"أب الأمة" التركية. وبما أن الوثائق حول هذه القضية نادرة، كان عليّ أن أبتكر حياته. طبعاً ارتكزتُ على بعض التفاصيل الحقيقية، كالتحاق "زيا" بجامعة دانتزيغ، ومشاركته في معركة "سكاجراد"، وانتخابه نائباً في أول برلمان عرفته الجمهورية التركية. لكن الباقي من صنع خيالي".

ومن خلال تجربة الجندي الشاب خلال خدمته العسكرية، يتمكّن غونداي من إدخالنا ببراعة إلى قلب مؤسسة عسكرية تملك لغتها الخاصة وكلماتها الاختزالية وقوانينها الصارمة وأفكارها الجامدة حول العالم؛ مُنقضّاً في طريقه على مفاهيم السلطة والطاعة والتراتبية، ومفككاً الميكانيكيات التي تسمح لهذه المؤسسة بتحويل شبّان بكامل عقلهم إلى مجرّد آلات تطيع الأوامر، وبالتالي مجرّدة من أي ضمير أو حرية في التفكير، عبر إخضاعهم لنظامٍ قاسٍ ونمط حياةٍ يومية معدوم الفرادة.

باختصار، رواية بلغةٍ حيّة ومشبّعة بالعنف، نتلقّاها كلكمةٍ موجعة تترك أثراً بليغاً وطويلاً، نظراً إلى سوداويتها، ولكن أيضاً إلى قدرة غونداي على إدخال ألوانٍ كثيرة على العالم القاتم الذي يصوّره.

 

من نفس القسم الثقافي