الثقافي

السوريون الأعداء.. حكاية شعب

أحداث ما تزال قريبة العهد وما يزال السوريون يعيشون عواقبها

الماضي يعود دائماً. لم يخطر ببال النقيب سليمان هذا الأمر حين أمر بنقل الطبيب عدنان الراجي إلى حقل الرمي، وشرع يقتل عائلة الأخير بدم بارد. لم يكن يعرف أنه بذلك خطّ الحكاية التي ستستمر لسنين طويلة، وتتمدد، من دون أن تتمكن من الانفصال عن تلك اللحظة، عن الماضي الذي لا يموت أبداً.

بهذا الحدث تنطلق رواية الكاتب السوري فواز حداد الجديدة، "السوريون الأعداء" (الريس للكتب والنشر). رواية عن سوريا التي انتزعت من أيدي أبنائها لتصبح رهينة نظام قمعي، وتتحول، في سنين قليلة، من دولة إلى ملكية خاصة. يروي الكاتب حكاية ثلاثة سوريين، تتقاطع حيواتهم في سياق الوطن السوري، وتتدرّج بين السلطة والخيبة والشقاء.يبدأ صاحب "الضغينة والهوى" بذكريات سليم الراجي، ابن مدينة حماة، القاضي في القصر العدلي في دمشق. نتعرّف إلى محنته في عمله بالقضاء، ومأساته التي بدأت عام 1982 حين جاء غرباءٌ بابن أخيه، الطفل الرضيع والناجي الوحيد من المجزرة التي ارتكبت بحق عائلته.

بحْثُ سليم عن أخيه عدنان لا يفضي إلى شيء، إذ اختفت جميع آثاره، وتحول حي الكيلانية، حيث كان يقطن مع العائلة، إلى أنقاض. أنقاض ستُبنى فوقها أحياء جديدة، علّ ذلك يطمس تلك المرحلة السوداء من تاريخ البلد. هذا ما يعمل عليه النقيب سليمان، الذي سيلقّب بالمهندس، بعد انتقاله إلى العمل في القصر الجمهوري. المهندس، الذي ارتكب المجزرة بحق العائلة حين كان ضابطاً إدارياً في الجيش، يُرقّى لتفانيه في خدمة "الدولة". يعيّنه "الرئيس" في منصب غير واضح المعالم، بل يُترك الأمر لسليمان كي يحدّد ماهية هذا المنصب.

هكذا يبدأ الأخير بهندسة منصبه، لتتعدد مهامه، من إقامة جهاز أمني خاص يُشرف على مراقبة الأجهزة الأخرى، إلى تحويل مالك القصر الجمهوري في أذهان الشعب من "الأخ القائد" إلى "القائد الخالد". يبدأ المهندس مهمته الأخيرة "بصورة ضخمة ملوّنة للرئيس، علّقت على واجهة مبنى محافظة أمانة العاصمة. حجم الصورة بطول المبنى". ويتهافت الانتهازيون من الحزبيين والرفاق في اتحادات العمال والفلاحين والطلبة وغيرها من الهيئات والنقابات، على تعليق صور القائد في بيوتهم، وامتداح حكمته وشجاعته.يقسّم حداد الرواية (472 صفحة) إلى 16 فصلاً، ويبدأ كل فصل مع مذكرات القاضي، التي تُروى بضمير المتكلم. ثم ينتقل إلى القصّ بضمير الغائب ليروي قصة المهندس. وينهي كل فصل برحلة الطبيب الذي اقتلع من أحضان عائلته، ليُرسل إلى حقل الرمي، حيث لا أحد يعود من هناك. إلا أن الصدفة لعبت دورها، وأنقذته من الموت، ليقع في براثن عذاب لا ينتهي.

هكذا، تتتبع الرواية قصة شقائه هو وزملائه المعتقلين في سجن تدمر؛ هناك، حيث الموت أكثر رحمة من البقاء على قيد الحياة. يرسم لنا صاحب "المترجم الخائن" صورة بانورامية لسوريا ومرحلة تكريس "نظام الحركة التصحيحية". يبدأ من مجزرة حماة، ويعبر الحرب الأهلية اللبنانية، والنزاع بين الشقيقين القائدين، ثم مرحلة انتقال الحكم من الأب إلى ابنه، لينهيها بالثورة التي بدأت في العام 2011، وما تزال مستمرة حتى الآن.

لا يخفى أن شخصية "المهندس" تتعدى ما تُظهره الرواية، كموظف في القصر الجمهوري. إذ إن هذا الذي مارس القتل لأول مرة في حماة، ثم شارف على مراقبة عمل أجهزة المخابرات والجيش والقضاء، وعمل على تأليه القائد الأول في البلاد، ونصح الحرس الجديد بالطريقة التي يتعامل فيها مع المظاهرات، هو أكثر من مجرد شخص لا علم لأحد بماهية عمله. إنه الكيان الذي حكم سوريا، ومجموع الأجهزة التي سيطرت وقمعت وبلورت الشكل النهائي للبلد.

 

من نفس القسم الثقافي