الثقافي
قسطنطين زريق ونقد الهزيمة
إحياء لفكر مستنير وفاعل عزلته مجريات العطالة العربية
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 27 أكتوبر 2018
بين كتاب "معنى النكبة" (1948، دار العلم للملايين، بيروت) للتربوي والمؤرخ القومي العربي قسطنطين زريق (1909- 2000) وأيامنا الراهنة صلات وثيقة تتخطى السبعين عاماً التي تفصلنا عنه، وتصل إلينا وتقيم علاقة مع كل زاوية من زوايا هذا الصراع القائم بيننا وبين الصهيونية.
ولا يتعلّق الأمر فقط بمصطلح "النكبة" الذي كان زريق أول من استخدمه في وصف ما سماها "هزيمة العرب في فلسطين" وأضاف أنها ليست "بالنكسة البسيطة، أو بالشر الهين العابر، وإنما هي نكبة بكل ما في هذه الكلمة من معنى، ومحنة من أشد ما ابتلي به العرب في تاريخهم الطويل على ما فيه من محن ومآسٍ"، بل يتعلق أيضاً بمصطلحات أخرى لم يُحسن ماضي الأيام إلقاء الضوء عليها، وترك هذه المهمة للحاضر، فوجدنا حاضرنا ينطق بها وعنها.
مع أن زريق عاد بنفسه وطرحها بعد النكبة الثانية في العام 1967، وأضاف لها ثلاثة وجوه؛ التخلف العلمي والانقسامات، وتغييب المشاركة الشعبية في كتابه "معنى النكبة مجدداً" (1967)، إلا أنها لم تفعل فعلها وغابت علومها أيضاً.يمكن القول، ونحن بين يدي هذا الكتاب الصغير نسبياً (96 صفحة)، إن أهم المصطلحات التي يلقي عليها حاضرنا الضوء، بالإضافة إلى "النكبة" التي اتسعت وتواصلت وتحولت إلى نكبة عربية شاملة، هي "الاستعمار الصهيوني" و"القوى الشعبية" و"استئصال الصهيونية" و"الاتحاد القومي التقدمي". وسيرد معنى هذه المصطلحات والسياقات التي وردت فيها خلال هذا العرض الذي نقدمه لهذا الكتاب، ليس إحياءً لذكرى مفكر فقط، بل لفكر مستنير وفاعل عزلته مجريات العطالة العربية في شتى مناحي الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية عن بيئته الطبيعية، أي المجتمعات العربية التي التمع من أجل إضاءة ظلمات النكبات التي أغرقتها، فلم يفعل فعل الخميرة التي هي من طبيعة كل فكر حي إلا لفترة قصيرة من الزمن ثم طواه النسيان.
فداحة النكبة هو العنوان الأول الذي يستهل به زريق كتابه، شارحاً وواصفاً ما كان يحدث في العام 1948، حين رأى "سبع دول عربية تعلن الحرب على الصهيونية في فلسطين.. سبع دول تتصدى لإبطال التقسيم وقمع الصهيونية، فإذا بها تخرج من هذه المعركة وقد خسرت قسماً لا يستهان به من أرض فلسطين، بل من الجزء "المعطى" للعرب في التقسيم، وإذا بها تقهر قهراً على قبول هدنة لا مصلحة لها فيها ولا غناء".بعد تحذيره من خطر الانهيار المعنوي الذي اعتبره "انتكاساً روحياً أهم من الخسارة المادية مهما عظمت"، يسارع إلى وضع الأسباب في موضعها الصحيح، فهي "لا تعود كلها إلى العرب أنفسهم"، إلى أخطائهم ومصادر ضعفهم، بل تعود أيضاً إلى أن "الصهيونية ليست تلك الجوالي والمستعمرات المنتشرة في فلسطين فحسب، وإنما هي الشبكة العالمية المجهزة علماً ومالاً، المسيطرة في بلاد العالم النافذة".
وعلى هذا الأساس، يرى سبيلين للمعالجة، الأول آني والثاني أساسي وبعيد المدى، مع ملاحظة أنه لا يمكن الفصل بينهما، وعلى المفكر أن يتناولهما معاً. أركان السبيل الأول خمسة هي على التوالي، تقوية الإحساس بالخطر الأعظم الذي تمثله الصهيونية على كل بلد من بلدان العالم العربي، والتعبئة المادية في ميادين العمل، عسكرياً واقتصادياً وسياسياً، وتحقيق أكبر قسط من التوحيد الممكن بين الدول العربية، وإشراك القوى الشعبية في النضال، والاستعداد لمساومة الدول الكبرى التي لها مصالح مهمة في بلادنا على أساس وحيد هو المصلحة لا غير.في هذه الأركان الخمسة ورد مصطلحا "الاستعمار الصهيوني" و"القوى الشعبية"؛ الأول في معرض قوله إن العرب مع ما شاهدوا وسمعوا "لم يدركوا بعد حقيقة الصهيونية وقوتها العالمية، وغايتها في الفتح والإفناء.. وشدة النزعة الكامنة في صدور القوم.. ثم ما تشربه فتيانهم وشبابهم في السنوات الأخيرة من النازية وسواها من حب السيطرة .. وما يجدون في البلاد العربية الغنية الموارد، المحتلة مركزاً وسطاً في العام، من مجال لجهدهم التوسعي هذا".
في الانتقال إلى ما سمّاه "الحل الأساسي"، يستخدم مصطلح "استئصال الصهيونية" حيث يقول: "غير أن محاربة الصهيونية لاستئصال جذورها والتغلب التام عليها، لا تتم في معركة واحدة، بل تتطلب حرباً مديدة الأفق بعيدة الأجل". وفي سبيل إعداد وسائل حرب مديدة مثل هذه، يرى زريق منذ البداية أن "مرد ما أحرزه الصهيونيون من نصر ليس تفوق قوم على قوم، بل تميز نظام على نظام، سببه أن جذور الصهيونية متأصلة في الحياة الغربية الحديثة، بينما نحن لا نزال في الأغلب بعيدين عن هذه الحياة متنكرين لها" و"السبب أنهم يعيشون في الحاضر للمستقبل في حين أننا لا نزال نحلم أحلام الماضي ونخدّر أنفسنا بمجده الغابر".
وعلى هذا، فإن "الخطر الصهيوني، بل وكل خطر اعتدائي علينا، لا يرده إلا كيان عربي قومي متحد تقدمي". وهنا يأخذ زريق بتحليل كل كلمة من كلمات هذه الجملة الأخيرة، ويتساءل: أيحق لنا أن نقول إن ثمة وطناً عربياً؟ وهل ثمة أمة عربية؟ ويرى أن وجود الجبال والأنهار والسهول والشواطئ قائم بلا شك ولكنه لا يعني وجود الوطن، وجوده يتحقق بتغلغل معنى الوطن في الذهن العربي، وكذلك الأمر مع الأمة، فوجود شعوب تتكلم اللغة العربية وتنطوي على إمكانيات تحقيق الأمة، لا يعنى وجود الأمة الحق، الوجود الحق أن تكون الأمة "موحدة المنازع، محققة الإمكانيات، تتوجه إلى المستقبل، وتفتح عينيها للنور".