الثقافي

أزنافور.. لم يحب الوداع فظلّ يغني

"البوهيمي" الذي غنى بالقبائلية

رحل اليوم الفنان وكاتب الأغاني الفرنسي من أصل أرمني شارل أزنافور (واسمه شاهنور فاريناج أزنافوريان 1924-2018)، في باريس، تاركاً خلفه أكثر من مئة ألبوم وألف وأربعمئة أغنية، كتب منها بنفسه ألف وثلاثمئة، وهو في عمر التاسعة كان أزنافور قد ترك المدرسة إلى غير رجعة، وأصبح طفلاً ممثلاً يحب الغناء والموسيقى وتعلّم العزف على البيانو، وظهر في عدة أفلام وبرامج، قبل أن تنقطع رحلته فجأة بسبب الحرب العالمية الثانية التي جعلته يلجأ إلى الغناء في الملاهي الرخيصة لكسب قوته، بينما التحق والداه سراً بالمقاومة الفرنسية.

ويذكر الجزائريون سفير الأغنية الفرنسية هذا بأدائه سنة 2017 رفقة المطرب إيدير لأغنية "البوهيميا" (La Bohème) باللغة القبائلية.و أدى شأرل أزنافور و إيدير هذه الأغنية ضمن ألبوم ثنائيات الذي يحمل عنوان "من هنا وهناك" بمشاركة أبرز أسماء الأغنية الفرنسية من خلال الأغاني الأكثر رواجا و منها "البوهيميا" لشارل أزنافور.

ويظهر فيديو بث آنذاك عبر اليوتوب مدى دقة الراحل في عمله مع إيدير الذي قال أن "شارل أزنافور كان يتوقف عند كل تفاصيل الكلمات حتى وإن كانت معقدة بحيث استطاع نطق أصعب الكلمات باللغة القبائلية حتى ظنناه واحدا منا"، يضيف الفنان إدير الذي وصف شارل أزنافور بـ "ثالث الكواكب بعد الشمس".

وكان الفنان شارل أزنافور، و اسمه الحقيقي شاهنوره فاريناج أزنافوريان، من مواليد 2 ماي 1924 من أب مهاجر، قد أدى حفلا أمام الجمهور العاصمي بقاعة الأطلس في السبعينييات، بدعوة من لجنة حفلات لمدينة الجزائر.

كما كان شارل أزنافور يتمنى الغناء مرة ثانية بالجزائر بحيث أن حفيدته ليلى والدها جزائري و تأسف كثيرا لإلغاء حفله الذي كان مبرمجا لسهرة 31 جانفي 2008، قائلا "خاب ظني كثيرا، فلطالما سعدت بالعودة إلى الجزائر العاصمة، إذ لم أغن فيها منذ سنين طويلة، وكانت لجنة حفلات مدينة الجزائر هي المكلفة بتنظيم حفلي الموسيقي".ورغم تقدمه في السن، إلّا أنه لم يستسلم واستمر في العطاء الفني بحيث كان من المقرر أن يحيي حفلا بمدينة بروكسل يوم 26 أكتوبر القادم وكذا خلال شهري نوفمبر وديسمبر بمركب "السين الموسيقي" قرب العاصمة الفرنسية باريس.

ولطالما كان يردد مطرب "لا مامّا" و "خذوني" مازحا "لست عجوزا بل طاعن في السن، فالأمر مختلف".وقد شارك الراحل أزنافور صاحب الرصيد الغنائي الحافل في 80 فيلما و ألف لكبار المطربين الفرنسيين على غرار إديت بياف وجوليات غريكو وجيلبير بيكو.

ارتبط أزنافور بصداقة وثيقة مع إديث بياف التي منحته فرصة حياته حين سمعته يغني فاصطحبته في جولتها عام 1946 ليغني أغنية أو اثنتين في كلّ حفلة لها، لكنها كانت ترغب أكثر في أن يكتب لها الأغاني فقط.ورغم أن أزنافور صاحب صوت تينور مختلف ورقيق قادر على تقديم الأغنية الفرنسية الرقيقة والخفيفة والشاعرية، والتي مُنع بعضها من "الراديو الفرنسي" لأنها جريئة، إلا أنه لم يكن محبوباً في البداية على الإطلاق.

واجه النقاد أزنافور بعيوب من نوع "القبح" و"قصر القامة" و"الصوت الغريب" و"من أين يأتي بهذه الأغاني" كنوع من التشكيك في موهبته، وإثر تكرار وصفه بالافتقار إلى المظهر اللائق بفنان والسخرية منه، طلبت منه بياف أن يغيّر من شكله، واقترحت ضرورة إجراء عملية تجميل لأنفه، وبالفعل استجاب لاقتراحها لكنها سرعان ما خيّبت أمله قائلة "أفضّل شكلك السابق على هذا".

صاحب "حين كنت شاباً"، و"مثلما يقولون"، و"بعد الحب"، و"البوهيمي" (وقد تكون هذه الأخيرة أشهرها والتي يطلبها جمهوره منه في كل حفل تقريباً)، لم يعرف طعم النجاح حقاً حتى نهاية الخمسينيات، أي بعد أكثر من عقد على رحلته مع بياف، التي استولت عليه تقريباً ككاتب أغان خاص بها فقط؛ أزنافور يصف علاقته ببياف في إحدى مقابلاته الأخيرة "جلبت لها شبابي، وجنوني، وأحبت الجانب الـ "جازي" في شخصيتي".

لعب أزنافور أدواراً في بضعة أفلام هنا وهناك، فظهر عام 1960 في دورعازف البيانو الخجول والمسكون في فيلم الموجة الجديدة لفرنسوا تروفو "اقتلوا عازف البيانو"، وظل يؤدي شخصيات بسيطة في أفلام مختلفة.

أما شهرة أزنافور العالمية في الغناء فقد بدأت تتضح في السبعينيات من القرن الماضي، حيث حققت أغنيته الإنكليزية الأولى "هي" نجاحاً كبيراً في بريطانيا وأميركا.

حين سئل أزنافور أكثر من مرة لماذا لا يتوقف عن الظهور على المسرح في السنوات الأخيرة، خاصة وأنه بدأ يتعب بسرعة وينسى الكلمات، فسّر ذلك بأنه "لآ يحب الوداع" وأنه سيظلّ يغني إلى أن يموت.

مؤخراً تناقلت صحف "إسرائيلية" أن الفنان ينوي إحياء حفل في "تل أبيب"العام المقبل بمناسبة عيد ميلاده الـ 95، وكان قد أقام حفلة ومُنح جائزة تكريمية فيها عام 2017، عن حماية عائلته لبعض اليهود من النازية إبان الحرب العالمية الثانية.

هل كان أزنافور يدرك تماماً في ذلك العمر معنى هذه الخطوة، وأن اليهود الذين تعرّضوا للاضطهاد النازي وساهم والداه في إنقاذ بعض منهم، ليسوا هم محتلو فلسطين اليوم الذين لا يختلفون عن النازيين في كثير من الأمور، فهل كان أزنافور ساذجاً وينظر إليهم بوصفهم ورثة آلام الهولوكوست؟

في مقابلاته بالعموم لا يظهر أزنافور شخصاً ملماً بالسياسة بما هي موقف من الإنسان أولاً، وليس في هذا تفسير لقبول جائزة لا قيمة فعلية ولا ثقافية ولا إنسانية لها، لكنه سؤال حول: ما الذي يجعل الفنان يقبل تكريماً من كيان يقوم على العنصرية والاحتلال والنفي، وهو يعرف كأرمني معنى كل هذا؟.

 

من نفس القسم الثقافي