الثقافي
"تشارلز ميلز واليسار الجديد": فهم إمبراطورية الأزمات والحروب
على الرفّ
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 29 سبتمبر 2018
صدر حديثاً عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" ترجمة كتاب "تشارلز ميلز واليسار الجديد" للباحث ستانلي أرونوفيتز، والذي نقله إلى العربية فادي ملحم. يتتبع العمل سيرة حياة عالم الاجتماع والمفكّر الراديكالي الأميركي (1916 – 1962)، الذي لم يتوقف عن الكتابة منذ أواخر أربعينيات القرن العشرين حتى رحيله.
يتناول الكتاب سيرته ضمن مستويات عدّة؛ التحليل الدقيق لكتاباته، وعرض تبصّراته اللافتة في المجتمع الأميركي ودوره العالمي، والاحتفاء بتصوراته عن المثقف العام أو المثقف السياسي، نقده للجامعة بصفتها مؤسسة.يشير المؤلّف إلى أنه "خلافاً لعلم الاجتماع الأوروبي، قليلاً ما تناول علم الاجتماع الأميركي مسائل الطبقات الاجتماعية قبل حلول أواخر أربعينيات القرن العشرين، حين بدأ ميلز كتاباته. كان علم الاجتماع ذاك مقتصراً بشدّة على دراسة "مشكلات اجتماعية" مثل الجريمة والمرض العقلي والمدينة والعائلة والدين، وما إلى ذلك. وكان يتحاشى بنى أساسية أكبر مثل العرق والطبقة والجنس، ويميل إلى التركيز على منهجيات علمية مزعومة تلقى القبول لدى الأسماء الكبرى في هذا الميدان".
أمّا ميلز فكشف في كتبه "رجال السلطة الجدد" و"القادة العماليون في أميركا"، و"ذوو الياقات البيضاء" و"الطبقات الوسطى الأميركية"، و"نخبة السلطة"، توترات وديناميات سبق أن تجنّبها معظم علماء الاجتماع، كما أَمِلَ، بتأثير الفيلسوفيّْن جورج هربرت ميد وجون ديوي اللذين ألحّا على الجمع بين التحليل والنشاط الفاعل، أن يساعد كشف بنى السيطرة ودينامياتها في تحديد الوجهة التي يجب أن يتخذها الجهد الرامي إلى إحداث تغيير جوهري، بحسب الكتاب.بعبارة أخرى، فإنَّ ميلز، في محاولته الكشف عن جذر الحياة الأميركية، كان يتحدى علم الاجتماع الأميركي وتصورّاته وما يؤديه من دور لدى الإمبراطورية الأميركية الناشئة التي راحت تتوسّع خارجاً عقب الحرب العالمية الثانية. بهذا المعنى، وما كان اهتمامه ليقف عند حدود علم الاجتماع، بل سعى في الحقيقة إلى فهم الإمبراطورية ذاتها، وإلى الكشف عن ذلك القطاع الذي يمكنه أن يعكس انجراف الولايات المتحدة واقتصادها نحو الأزمات والحروب.
يرى أرونوفيتز أن ميلز اهتمّ، لا سيما في كتابه "رجال السلطة الجدد"، بالطرائق التي تكيّفت بها النخب العمالية الدنيا مع معايير المجتمع السياسية المحافظة، بدلًا من أن تكشف عن حدود تلك المعايير والأثمان المدفوعة لقاء التمسّك بها. ورأى ميلز في تحوّل الطبقة الوسطى من أصحاب مشاريع صغيرة ومهنيين إلى مدراء، ومثقفين متوسطي المستوى، وكتبة، دلالةً على الطرائق التي يستنسخ بها المكتب، في رتابته وتصنيعه، مصنع العامل ذو الياقة الزرقاء. فكما راحت النقابات العمالية تحفل بمسائل الأجر والتقاعد وليس بدور العمل والمصنع في المجتمع الأكبر، كذلك فعلت الطبقة الوسطى من ذوي الياقات البيضاء، بتطلعها إلى الوظيفة والتقاعد الآمنين، متجاهلة أيضًا قضايا معنى العمل الجوهري والإنساني والمشاركة في صنع القرار في مكان العمل.
كان ميلز يكتب ضد التيار السائد في ميدانه، إذ رأى أن زملائه الأكاديميين لا يميلون إلى اليسار إلا بالقدر الذي يتيح لهم إيلاء دولة الرفاه والحريات المدنية والمؤسسات الديمقراطية الليبرالية الاهتمام، فقد كان علماء الاجتماع في أيامه، كما هم في أيامنا، أبعد ما يكونون عن الاحتفاء بكلام التحليل الراديكالي وممارساته.يقول أرونوفيتز في كتابه إن الأكاديميين الشباب يتعلمون معظم الوقت إظهار الاحترام وإبداء الطاعة للأفكار السائدة في فروعهم المعرفية، "باستثناء تلك الأوقات أو الفترات التي يتم الترحيب فيها بالفكر الراديكالي، بسب تعرض التوجه المعتدل الفكري لدى العدد الأكبر من الأساتذة الجامعيين للتحدي والاعتراض من خارج الجامعة، بوساطة منظمات اجتماعية وسياسية قوية لا يمكن تجاهلها".