الثقافي

صدر قديماً: "التراث الهندي".. مختصر خمسة آلاف عام

على الرفّ

أكثر من درسٍ وأكثر من رؤيا يمكن أن يحصل عليها قارئ كتاب "التراث الهندي" الذي أشرف على تعريبه وقدّم له الشاعر السوري الراحل عمر أبو ريشة حين كان سفيراً لـ"الجمهورية العربية المتّحدة" في الهند بين 1958 و1959، متمنّياً أن يراه بين أيدي روّاد العلم والمعرفة في البلاد العربية.

نشر الكتابَ في بومبي الهندية "مجلسُ الهند للروابط الثقافية" عام 1959، وكان مؤلّفه همايون كبير (1906 - 1969) يشغل آنذاك رئاسة المجلس المعني بإحياء وإنشاء وتعزيز العلاقات الثقافية بين الهند والبلدان الشرقية الأخرى، وخصوصاً البلدان العربية، في ضوء توصيات مؤسّسه محي الدين أحمد بن خير الدين المشهور بلقب مولانا أبو الكلام آزاد (1888 - 1958)، أوّل وزير تعليم في الهند بعد الاستقلال، رغم صغر حجمه، يكاد العمل يكون شلّالاً من المعلومات والكشوفات ينصبّ في صفحات قليلة. هو اختصارٌ زاخر لمسيرة الحضارة الهندية وتقلّباتها على امتداد ما يقارب خمسة آلاف عام، إلا أنه اختصارٌ لا يُخلّ بالموضوعة الجوهرية التي قامت عليها هذه الحضارة، وهي الوحدة في التنوّع، أو الوحدة في التناقض حسب تعبير المترجِم، في كل مرحلة من مراحلها.

وإذا كان من المعتاد أن يبدأ التأريخ لهذه الحضارة بالغزو الآري (2000 ق. م تقريباً) الذي يُقال إنه الحجر الأساس في قيام نظمها وقراها وحياتها الزراعية وعقائدها وملاحمها وطرز ثيابها، فإن تراث الهند الحضاري، حسب كبير، يبدأ في أزمان أقدم من ذلك؛ بحضارتَين عُرفتا حديثاً باسم حضارتَي وادي الإندس (موهنجو دارو وهارابا) اللّتين شكلتا العناصر الملموسة، حسب الكشوفات الأثرية، في تطوّر ثقافة الهند، و"لا تزال آثارهما ظاهرة في المعتقدات والأزياء والأدوات المنزلية وسجايا الهنود وطبائعهم وعقائدهم.. ونزعتهم السلمية.. حتى اليوم".

تتجلّى الموضوعة الأبرز التي تدور حولها فصول الكتاب في التركيز على قدرة الثقافة الهندية على امتصاص التيارات الوافدة سواء عن طرق الغزو أو التجارة أو الاتصال، وإفقادها طابعها وملامحها الأجنبية. حدث هذا مع وصول الآريّين المحاربين واليونانيّين وقبائل الهون وغيرهم، وحدث حتى مع الثقافات الأكثر استعصاءً على التكيّف، فهي وإن قاومت الاندماج والانصهار بالبيئة المحلية الهندية لم تستطع الخلاص من التأثّر بها، والتحوّل إلى ثقافة ذات سمات "هندية" واضحة، كما تتجلّى هذه الموضوعة في المرونة ونزعة التسامح التي نشأت حسب الكاتب من تعدّد الروافد وتنوّع تضاريس وطبيعة شبه القارة الهندية، وبقاء الثقافة الهندية محافظة على شخصيتها وذاتيتها وقدرتها على التنسيق والتوليف بين الثقافات. ففي عصر نشوء الإمبراطوريات، وأولها المورية بعد الغزو اليوناني، كان الإمبراطور الشهير آشوكا المتحمّس لعقيدته البوذية يرى في تعاليمه "أن المؤمن الحقيقي يحرص على احترام جميع الأديان"، وأضاف وصول المسلمين، وخصوصاً خلال تأسيس المغول المسلمين إمبراطوريةً في شمالي الهند، لمسة أكثر عمقاً إلى هذه النزعة. ففي ظل هذا العهد تبوّأت حتى اللغات المحلية مكانة محترمة بفضل مصلحين ومتصوّفة من أمثال كبير، وشيتانا، وداس، وتوكا رام.

ويلاحظ الكاتب أن "تاريخ الهند في القرون الوسطى، شأنه شأن تواريخ الشعوب الأخرى في جميع العصور والحقب، هو عبارة عن صراع من أجل النفوذ السياسي والسيطرة الاقتصادية، ومن النادر حقاً أن نعثر على أثر لأي صراع ديني أو طائفي.. لا مشاحة في أن المسلمين حاربوا الهنادكة في القرون الوسطى، ولكن من النادر، بل من المعدوم، أن تكون هذه الحروب قد نشبت حول خلافات دينية أو طائفية. ولم تكن المشاحنات التي قامت بين الهنادكة والمسلمين بأقل من مثيلاتها التي قامت بين المسلمين والمسلمين وبين الهنادكة والهنادكة. وقلّما طرأت المسائل الدينية على بال الزعماء المتنافسين".

في الفصول الأخيرة ينتقل الكاتب إلى العصر الحديث، بداية بظهور الأوروبيّين في الهند، فيقول إن هذا الغزو كان مختلفاً عن كل ما مرّ بالبلد من غزوات في الماضي، من حيث أنه كان إخلالاً بالتوازن القائم. فحينما ظهر هؤلاء على مسرح السياسة الهندية كان الصراع القائم بين القوى المختلفة فيها قد اكتسب توازناً مؤقّتاً.. طقوس العبادة التي كان يمارسها رجال الدين والصوفيّون اتجهت نحو التأليف والتوفيق، وعكس التخفيف من وطأة القيود الناشئة عن نظام الطبقات المحاولة نفسها.. وكذلك كان الاستقرار الاقتصادي والسياسي الذي نعمت به البلاد في ظل الحكم المغولي برهاناً على ما حقّقته البلاد أيضاً من توازن في هذين الميدانين. كل هذا سيتغيّر مع ظهور الأوروبيّين الذي يعتبره الكاتب من الأحداث العظمى "لا لأن الأوروبيين ينقلون معهم إلى خزّان الهند البشري عناصر جديدة فحسب، بل لما أحدثه ظهورهم من إخلال في قوى المجتمع الهندي.. وبدأت الأحوال تتغيّر، وما لم يتم تغييره لا يتسنى لأحد أن يعرف نتائجه".

 

من نفس القسم الثقافي