الثقافي

صدر قديماً: "اللاز": ما لم تقله الرواية الرسمية

يتلبّس طيف المناضل اليساري العيد العمراني شخصيةَ البطل

حين صدرت "اللاز" عام 1974، كان الطاهر وطّار (1936 - 2010)، الذي تمرّ اليوم ثماني سنواتٍ على رحيله، يُقدّم للقارئ ثانيَ نصٍّ روائي جزائري يُكتب باللغة العربية، بعد "ريح الجنوب" لـ عبد الحميد بن هدّوقة (1926 - 1996)، التي صدرت قبل ذلك بوقتٍ قصير (1971).

وبينما تناولت رواية بن هدّوقة مظاهر الصراعات الأيديولوجية والتناقضات الاجتماعية في الريف الجزائري بعد الاستقلال، اقتربت رواية وطّار من موضوعٍ يتعلّق بالثورة التحريرية (1954 - 1962) ظلّ يُصنّف ضمن خانة التابوهات، ويتمثّل في التصفيات الجسدية بين أبناء الثورة أنفسِهم. هكذا، كان من الطبيعي أن يُثير صدورها نقاشاً واسعاً تجاوز الثقافي إلى السياسي.

تناولت الرواية قضية تصفية محامٍ ومناضل يساري جزائري بأمرٍ من قيادة "الولاية الأولى"، بسبب التحاقه بالثورة من دون أن يفكّ ارتباطه بحزبه الأصلي "الحزب الشيوعي الجزائري"، مخالفاً بذلك شروط قيادة "جبهة التحرير الوطني".

كانت "اللاز" التجربة الروائية الأولى للكاتب الذي سبق أن نشر مجموعة قصصية قصيرة بعنوان "دخان من قلبي" (1961)، ومسرحيّتَين؛ هما: "على الضفّة الأخرى" (1958) و"الهارب" (1971). وكانت الرواية الأوّلى كافية لجعل صاحبها أبرز روائي جزائري في المشرق؛ حيثُ طُبعت أعماله في بلدان عربية مختلفة، كما تُرجمت إلى عددٍ من اللغات الأجنبية.

بلغةٍ بسيطة، تجاوَز وطّار "الرومانسيةَ الثورية" التي كانت سائدة في كتابات تلك الفترة، مفضّلاً تقديم أفكار ومواقف سياسية حول الثورة، من خلال شخصيّة "اللاز" الذي يبدو مجهول الهوية.

تتعدّد شخصيات الرواية؛ من العجوز حليمة إلى الشيخ الربيعي، وليس انتهاءً بـ حمّو وشقيقه زيدان. ورغم أن العنوان يُوهِم بأن "اللاز" هو شخصية العمل المحورية، إلّا أن سيرورة الأحداث تُؤكّد أن بطلها الحقيقيّ هو زيدان، الذي يكون، ربّما، الشخصية الواقعية والحقيقية الوحيدة من بين تلك الشخصيات.

من المؤكّد أن لهذا التحوير أسبابه الفنّية بما أننا بصدد رواية، وليس عملاً تاريخياً. لكن الواضح أن الكاتب أراد، أيضاً، التحايلَ على الرقابة وتمرير موقف من مسألة تصفية مناضلين يساريين أثناء الثورة.

في البداية، تبدو حياة "اللاز"، الفتى العربيد والمشرّد، بلا معنى، قبل أن يكتشف هويّة والده الحقيقي؛ زيدان، المناضل ضدّ الاستعمار الفرنسي. دفعه ذلك إلى الالتحاق بالمناضلين الجزائريّين في الجبال. لكن فرحته بوالده لم تدُم كثيراً، فهذا الرجل المشبَع بالمبادئ اليسارية سيظلّ إلى النهاية متمسّكاً بانتمائه إلى حزبه رغم التحاقه بالثورة، وهو ما سيدفع ثمنه؛ حيثُ يسقط برصاص رفاقه في "القيادة". يُصاب الابن بصدمة نفسية عنيفة تُفقده ذاكرته وتجعله يُردّد عبارةً شعبية سنلتقي بها كلازمة تتكرّر في الرواية: "ما يبقى في الواد غير حجارُو".

ظاهرياً، تبدو الرواية مؤثّثة بأحداث وشخصيات من وحي خيال الكاتب. لكن المتابع لوقائع الثورة الجزائرية يُدرك أن الأمر على عكس ذلك تماماً؛ إذ يَظهر طيف المناضل اليساري ونقيب المحامين في محافظة باتنة، العيد العمراني، متلبّساً شخصية زيدان، وهو ما سيعترف به وطّار في غير ما مناسبة، مُعتبراً أنه كان سبّاقاً إلى اختراق أكثر تابوهات الثورة حساسيةً ونكء أشدّ جراحاتها إيلاماً.

في أحد حواراته، قال الكاتب الراحل، الطاهر بن عيشة، إن العمراني، الذي أعدمته قيادة الثورة عام 1956، كان أحد أصدقائه المقرّبين، مُضيفاً أنه روى تفاصيل حكايته لـ وطّار، فحوّلها إلى شخصية روائية. وردّ الأخير بالقول إن "زيدان هو ابن الشعب الجزائري، وهو، أي الشعب، من كتبَها في النهاية".

أراد وطّار أن تُحقّق باكورتُه صدىً في المشرق العربي، فقدّمها للنشر في سورية، لكنها رُفضت بدعوى إساءتها إلى الثورة الجزائرية، كما رفضها عددٌ من الناشرين اللبنانيّين الذين كانوا متأكّدين من أنها ستُمنَع في بلد الكاتب، حيث يُفتَرض أن تُوزَّع. ولعلّ أحداً لم يتوقّع أنها ستُنشر في الجزائر نفسها، ومن قِبل المؤسّسة الرسمية التي كانت تحتكر صناعة الكتاب آنذاك.

لكن، كيف أفلتت الرواية من قبضة الرقيب زمنَ الحزب الواحد في جزائر السبعينيات؟

قبل صدور العمل، فاز وطّار، مناصفةً مع الكاتب الراحل أبو العيد دودو، بجائزةٍ في القصّة القصيرة نظّمتها وزارة الإعلام والثقافة التي كان يرأسها، حينها، أحمد طالب الإبراهيمي. وأعلنت الوزارة أنها ستنشر الأعمال الفائزة عن طريق "الشركة الوطنية للنشر والتوزيع" التي كان يشغل مديرية النشر فيها الكاتب عبد الرحمن ماضوي.

وبينما كان الأخير ينتظر من وطّار مخطوط مجموعته القصصية الفائزة، منحه هذا مخطوط رواية "اللاز" الذي وُجّه رأساً إلى التصفيف والطبع، من دون أن يمرّ على لجنة القراءة أو الرقابة. ولم ينتبه أحدٌ إلى الأمر إلّا بعد صدورها وتوزيعها على المكتبات.

حينها، تأسّف الإبراهيمي من نشرها. غير أنه لم يأمر بمصادرتها. ولا يُعرف إن كان الأمر محض خطأ أم أنه حيلة من وطّار. لكن الأهمّ، أن العمل الذي تخوّف ناشرون مشارقة من نشره تحاشياً لتبعاته نُشر في بلده، وبشكلٍ كامل. وبذلك، فُتح باب نشرها على مصراعيه، فصدرت في طبعاتٍ أُخرى في غير ما بلد عربي، وتُرجمت إلى لغات أجنبية عديدة، قبل أن تُصبح اليوم واحدةً من كلاسيكيات الأدب الجزائري.

ورغم أنه أصدر عدداً كبيراً من الروايات، أبرزها "الزلزال" (1974) و"الحوّات والقصر" (1978) و"عرس بغل" (1983)، إلّا أن اسم وطّار ارتبط بروايته الأولى تلك، حتى كأنه لم يكتب سواها. ولعلّ النجاح والانتشار الكبيرَين اللذين حقّقتهما هو ما دفعه إلى كتابة نصّ آخر كان بمثابة جزء ثانٍ لها، هو "العشق والموت في الزمن الحرّاشي" (1982). غير أن العمل لم يُحقّق ما حقّقه سابقه، ربما لأنه تناول مواضيع أخرى في جزائر الاستقلال، وكان مُثقلاً بالخطاب الأيديولوجي المباشر.

 

من نفس القسم الثقافي