الثقافي
عين الفوّارة.. منحوتةٌ لا تشبه نفسها
أُحيط الترميم بتكتّم بدل فتحه على الفنّانين والطلبة
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 19 أوت 2018
أخيراً، عادت "المرأة المرمرية" لتستقبل زوّارَها: عشراتٌ من المارّة تحلّقوا حول تمثال "عين الفوّارة" في سطيف. بعضُهم ليشرب من الماء المتدفِّق من جنباتها، وآخرون لالتقاط صورٍ تذكارية. ولعلَّ الفضولَ هو ما أتى بعددٍ غير قليل منهم لاستطلاع شكل التمثال الذي أُزيح عنه الستار أخيراً؛ فقد ظلّ المكان مُسيَّجاً طيلة سبعة أشهر، هي المدّة التي استغرقها ترميم المنحوتة التي تعرَّضت، نهاية العام الماضي، إلى تخريب من قِبل شخصٍ متطرف وُصف بأنه مختلٌّ عقلياً.
قُبالة المنحوتة، وقفت امرأةٌ خمسينية متأمّلةً المشهد، ثمّ، وهي تنسحب، قالت بنبرة تحسُّر، كما لو أنها تُحدّث نفسها: "لكنّها لم تعُد كما كانت في السابق". وهذا التعليق تَردّد مثلُه الكثير على مواقع التواصل الاجتماعي، منذ تدشين النسخة المرمَّمة؛ إذ عبّر كثيرون عن خيبة أملهم ممّا أسفرت عنه عملية الترميم التي أشرف عليها "خبير" يُدعى عبد القادر بن صالح.
تراوحت التعليقات بين الامتعاض والسخرية. لكن الآراء أجمعت على أنّ "المرأة المرمرية" لم تعُد تُشبه نفسها. رأى بعضُهم أن الوجه فقد ملامحه الأنثوية وبات أقرب إلى وجه رجلٍ، وعلّق آخرون بالقول إن "بومارطو" (أبو مطرقة)، وهو اللقب الذي أُطلق على مُخرِّب التمثال في 18 ديسمبر الماضي، كان أكثر رحمةً بها من المرمِّمين.
ما هي المعايير التي استند إليها المرمِّمون؟ سؤالٌ كان لا بدّ من طرحه على أحد المشاركين في عملية الترميم. غير الوصول إلى أيٍّ منهم لم يكُن أمراً سهلاً، في ظلّ حالة التكتُّم المفروضة على الملف. لكن، وبالعودة إلى تصريحاتٍ صحافية لعبد القادر بن صالح، خلال تكريمه من قِبل وزارة الثقافة الجزائرية في فيفري الماضي، سنجده يؤكّد أن إعادة بناء التمثال جرت بطريقة "علمية حديثة"؛ حيثُ استندت إلى صور وتصاميم قديمةٍ، وأيضاً إلى "تقنية ثلاثية الأبعاد سمحت بإعادة تشكيل الوجه والأجزاء المتضرّرة من الجسد بصورةٍ تُطابق الشكل الأصلي" الذي أنجزه النحّات الفرنسي فرانسيس دو سانت فيدال في نهاية القرن التاسع عشر.
بحسب بن صالح، الذي يُعرَف كمرمّمٍ للقطع الفسيفسائية، فإن الترميم تطلّب تفكيك التمثال لإزالة الأجزاء التي أُضيفت إليه بعد الهجوم الذي تعرّض له عام 1997، وأن جميع المواد التي استُخدمت "موجودة في السوق الوطنية"، في إشارةٍ إلى أن العملية لم تُكلّف ميزانيةً كبيرة.
وخلال تدشين التمثال قال وزير الثقافة، عز الدين ميهوبي، إن الترميم أنجزه خبراء جزائريّون متخصّصون، وفق "المعايير الأكاديمية والجمالية"، مضيفاً أنه كلّف مبلغاً زهيداً، من دون أن يُحدّد قيمته.
اللافت أن ميهوبي نفسَه كان قد أعلن، خلال ندوةٍ حول "التعاطي الإعلامي مع التراث"، نُظّمت نهاية العام الماضي، أن الفنّان التشكيلي الجزائري، رشيد قريشي، تكفّل بتمويل الترميم، واقترح الاستعانة بـ "خبرات أجنبية". غير أن شيئاً من ذلك لم يحدث، إذ آلت المسألة برمّتها إلى "الخبراء الجزائريّين".
وحول هذه الجزئية يُعلّق بن صالح، على هامش تكريمه دائماً، بالقول إن مقترَح الاستعانة بالخبرة الأجنبية لم يكُن في محلّه، مضيفاً: "قريشي فنّان تشكيلي و"عين الفوّارة" معلمٌ أثري. وبالنسبة إليّ، فأنا أمتلك خبرةً عمرها ثلاثون سنة في ترميم التماثيل والقطع الفسيفسائية".
لكن، يبدو أن الطرق "العلمية الحديثة" و"الخبرة التي يقارب عمرها ثلاثين سنةً" جاءتا بنتائج غير تلك المتوقَّعة؛ فبالاقتراب من التمثال، يتبدّى عددٌ من التغييرات الجوهرية التي طرأت عليه: أنفٌ أكبر، ثديان أصغر، وشعرٌ يبدو أقرب إلى كتلةٍ صلبة جاثمةٍ فوق الرأس. وبالمحصّلة، اكتسبت المنحوتة ملامح مختلفةً تماماً.
لأخذ رأي خبير فنّي، اتّجهنا إلى حي "المعبودة"، على بعد أمتار قليلة من "عين الفوّارة"، للقاء النحّات والأكاديمي سليم ركّاح، الذي يُدرّس الرسم والنحت والتشريح الفنّي في "المدرسة الجهوية للفنون الجميلة" في سطيف. استهلّ حديثه إلى "العربي الجديد" بالقول إن التماثيل ليست حالة فنيّة غريبة في المدينة، فهذا الحي نفسُه أخذ اسمَه من منحوتةٍ تحوّلت إلى ما يُشبه المزار الذي يقصده الناس للتبرّك، قبل إزالتها في السبعينيات".
يُعلّق ركّاح على عملية الترميم بالقول "إن أسوأ طالب في المدرسة كان ليُقدّم عملاً أفضل"، مضيفاً أن الترميم لم يحترم شكل الأنف والعينَين والذقن، بينما فقد الشعر انسيابيّته السابقة، وأن شكل الثديَين لم يعُد متناغماً مع وضعية الجسد: "لا يوجد تناسق بين الوجه وبقية أعضائه، ومع بقيّة الجسد".
لكن الأسوأ، بحسب قوله، أن الوجه "الجديد" يخلو من التعابير: "كانت امرأةً واثقة، لديها نظرة أمل وكبرياء. الآن، تبدو كتلةً حجرية تُحدّق في الفراغ، لا أمل ولا خوف ولا حزن في وجهها". يُضيف: "بما أن النتيجة كانت سيئةً، تمنّيتُ لو أنهم تركوها مهشّمةً، توثّق لتاريخ التخريب الذي عاشته".
بحسب ركّاح، فإن الوفاء للشكل الأصلي كان يتطلّب العودة إلى صور "عين الفوّارة" ومجسّماتها القديمة، وأيضاً دراسةَ نماذج من الفن الإغريقي والروماني الذي استلهم منه الفنّانون الأوروبيّون منحوتاتهم.
يعتبر المتحدّث أن الترميم كان متسرّعاً وجرى في ظروف غامضة وغير صحيّة، إذ "سُيّج المكان وجرت الأشغال وسط تكتّم كبير، بينما كان بإمكانهم فتح المكان أمام الفنّانين والأكاديميّين وطلبة مدارس الفنون الجميلة، للاستفادة من آرائهم، أو لإتاحة فرصةٍ لهم لحضور ورشة تدريب حقيقية".
يكاد تشويه المعالِم يتحوّل إلى حالة عامّة في الجزائر. من ذلك ما تعرّضت إليه "فيلا فلورنسا" غربَي العاصمة، والتي بُنيت عام 1930؛ فبعد أن ظلّت هذه التحفة المعمارية مهجورةً لعقود، رُمّمت بشكلٍ أفقدها ملامحها التراثية. وإن كان تشويهها جرى بدعوى الترميم، فإن تشويه "تمثال الأمير عبد القادر" في العاصمة، والذي أنجزه النحّات البولوني ماريان كونييتشني بداية الثمانينيات، كان مجّانياً؛ إذ جرى طلاؤه بلا أيّ مبرّر.
عن قراءته لحالات التشويه التي باتت تتعرّض لها التماثيل والبنايات الأثرية في الجزائر بدعوى الترميم، يقول ركاح إن لذلك أسباباً كثيرة؛ من بينها: غياب الخبراء الفنيّين عن الإدارات المحلّية، وانعدام التنسيق بين المؤسّسات الثقافية التي لا يعرف كثيرٌ منها الفنّانين الذين يُمكن أن توكل إليهم هكذا أعمال، إضافةً إلى خضوع الفن للبيروقراطية.
كما يلفت إلى "عدم الاهتمام بالفنون في المقرّرات الدراسية، وتخلُّف منظومة التكوين الفنّي التي لم تتغيّر مقرّراتها منذ سنوات طويلة".
الوكالات