الثقافي
بشرى المقطري: تجميع الألم بين دفّتَين
على الرفّ
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 02 أوت 2018
ترفض الكاتبة اليمنية، بشرى المقطري (1979)، مُغادرة بلدها منذ اندلاع الحرب قبل أكثر من ثلاث سنوات؛ فكأنها تريد البقاء لمتابعة الوجع المتزايد، يوماً إثر يوم، وتأمُّل الألم عن قرب والكتابة عنه، ليس بصوتها ولكن بأصوات الضحايا. لم تكتب إصدارها الجديد. فقط وضعت مقدّمةً، والباقي هو تسجيلٌ لأصوات الحزانى وضحايا الحرب التي أتت على البلاد وأهلها، من قِبل قوّات "التحالف العربي" و"الحوثيّين".في حديثٍ إلى "العربي الجديد"، تقول المقطري: "في أحلامي، تصمت الحرب. لا قذائف، ولا غارات، ولا قتل، ولا مجاعة، ولا خوف، ولا ضغينة. أصحو من خيالاتي، فأجد الحرب لا تزال مستمرّةً، كما هي منذ اندلاعها قبل سنوات".
في عملها الجديد "ماذا تركتَ وراءك؟ أصوات من بلاد الحرب المنسية" (رياض الريّس للكتب والنشر)، تستفيد المقطري من أدواتها السردية لتقول سيرةَ الحرب من وجهة أُخرى، وهي كاتبة القصّة القصيرة ثمّ الرواية لاحقاً.ولن يجد القارئ صعوبة، وهو يمر على سيرة "الحرب المنسية"، في رؤية الضحايا الذين لا يذكرهم أحد في تجربةٍ هي الأشدّ قسوة خلال السنوات الأخيرة. تقول: "آثار الحرب لا تُمحى، يبقى أثرها في أرواحنا وذاكرتنا".تسير الكاتبة على الطريق نفسه الذي رسمته في روايتها "خلف الشمس" (2012)، التي تتناول عصور الاختفاء القسري في اليمن؛ إذ تقتفي، مجدّداً، آثار المخفيّين والموتى، وتنقل سيَرهم عن طريق من بقي على قيد الحياة.
ولعلّ عدم ذكر اسم اليمن على غلاف الكتاب، قد يُسهّل دخوله إلى البلدان المشاركة في الحرب عليه. ربّما هو طريقةٌ لإدانة كلّ من ترك أهل "اليمن الحزين" بلا سند أو دعم قد يوقفان عجلة الحرب.تقول المقطري إنها لم تكن معنية تماماً بسرد الحقائق والوقائع السياسية للحرب، بل بسرد وقائع الموت اليمني المُعلَن؛ حيث تتّسع قوائم الضحايا المدنيّين الذين "يُقتلون كل يوم بلا معنى".
تبدأ السيرة من صنعاء؛ حيث سجّلت شهادات أُسر ضحايا الحرب. تتذكّر رائحة احتراق اللحوم الآدمية، ومشهد شعرٍ محترق التصق بأرضيّة مصنع للغذاء بعد غارة لـ"التحالف العربي" عليه. تتعاظم المرارة في تعز؛ حيث حصار "الحوثيّين".تكتب: "سترى بعينيك مشاهد الدمار، منازل مهدّمة، مخيّمات الأهالي الذين هجّرتهم المليشيات من قراهم، القهر في عيون المواطنين الذين لجأوا إلى ممرّات جبلية صعبة لكسر الحصار".
أمّا زيارة الحديدة، على البحر الأحمر، فهي مخاطرة كبيرة؛ حيث تعتقل المليشيات أيَّ صحافي. تنجح محاولة الدخول بعد ارتداء الغطاء التقليدي الشامل لوجه المرأة اليمينة؛ إذ يُصبح من الصعب السماح بتفتيش المرأة أو كشف وجهها. هناك، تجد أكثر من مشفى ممتلئ بأجساد ضحايا الغارات: "رأيتُ بعيني ما فعلته القنابل العنقودية في جسد بائع سمك فقير".لم يعد سهلاً لصحافي قادم من الشمال أن يدخل إلى الجنوب. في مدخل الضالع، أوقفت الكاتبة ولم يُسمح لها بالدخول إلّا بعد حصولها على موافقة رسمية من القوّات الإماراتية، الحاكم الفعلي لأجزاء واسعة من الجنوب اليوم.وفي عدن، كان ثمّة بداية لحرب من نوع جديد: مليشيات محلّية تتقاتل في ما بينها مع مسلحين يتبعون لـ"المقاومة الجنوبية" ويشتبكون مع قوّات الحرس الرئاسي، في حين تقصف الطائرات الإماراتية مطار عدن الدولي: "أدركتُ حينها كيفية تماثل النقائض وتشابهها في لحظة تاريخية ما".
وحين دخل عبد الحميد البيت، بعد قصفه، راح يُحدّق في الجثث المشوّهة، ومنها ما دفعته قوّة الانفجار إلى خارج البيت: "كانت تلك الصور تمنعني من النوم لأشهر. أحياناً، أحلم بلحظة ما قبل سقوط الصاروخ، وفي أحلامي أمنعه دائماً من السقوط".وتالياً، تحكي نُسيبة عبد الملك ما حدث لها من قِبل مليشيات الحوثي وصالح في منطقة "بير باشا" بمدينة تعز. قتلت قذيفةٌ ابنتها ريم مع تسعة أشخاصٍ آخرين، في حين أُصيبت ابنتها الأخرى ملاك (8 سنوات). تقول الأم: "ملاك الآن لا تمشي، نخلت الشظايا جسدها. تتذكّر كل يوم كيف كانت تُمسك بيد أُختها وهما تنتظران صديقتهما رُبى ورَفى ليلعبن معاً. تقول لي: يا ماما لم يكن لريم وجه. سحقت القذيفة وجه أُختي".
سننتظر، في رحلة الألم الطويلة هذه، قصّة صباح أحمد فارع، من منطقة عِرّة همدان، بمحافظة صنعاء. قُتلت ابنتها نورة (19 سنة)، وأخوها شهاب (5 سنوات)، وصديقات ابنتها، لبنى وإشراق، وقُتل أفرادٌ من عائلة جارهم. تقول صباح: "الضحية لا تعود أبداً إلى مكان الحادث، لكنني عدتُ إلى هناك. شيء ما كان يجرُّني إلى المكان". حاول شقيقها أخذها إلى منزله، فقالت باكيةً: "أريد أن أعود إلى بيتي". غير أن بيتها لم يعد موجوداً.تأتي بقية نصوص الكتاب موزّعة على كامل الجغرافيا اليمنية وعبر أهالي ضحايا شهدوا موت أحبّتهم بصواريخ وقذائف الجهات المتحاربة. لكن القصّة الختامية يليق بها أن تكون خلفيةً لحالات العزاء الكثيرة التي صارت عنواناً يمنيّاً بارزاً.