الثقافي
"الأندلس": تحقيق حول أسطورة
على الرفّ
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 24 جولية 2018
لا تزال الأندلس تسحر المؤرخين والمفكرين والأدباء وتبعث فيهم الحنين إلى حِقبة القرون الثمانية التي شهدت الحضور العربي-الإسلامي في شبه الجزيرة الأيبيرية من عام 711 إلى عام 1492.
ولا تزال تلك الفترة وما تلاها تثير أسئلة حارقة ليس فقط حول العوامل التي أدت إلى زوالها، بل والأسباب الداخلية التي أسهمت في ازدهارها المذهل، حين كانت سائر أوروبا ترزح تحت نير الظلامية والتعصب. ولذلك شاع حول الأندلس بالذات، أكثر من أية منطقة أخرى في العالم، كمٌّ هائل من التخيّلات، فامتزجت في تصورها الحقائقُ بالأساطير.
من هنا قرر المؤرخ الفرنسي، المتخصص في التاريخ الإسباني، جوزيف بيريز (1931) إنجاز ما يشبه الحفر الأركيولوجي لهذه المادة الضخمة التي تشكلت، على مر العصور، من الصور والتمثلات التي نسجها المخيال الغربي-المسيحي حول الأندلس وسقوطها، من أجل تعرية دوافعها الدينية والحزبية وحتى الطبقية. فأصدر مؤخراً كتاب "الأندلس، حقائق وأساطير" (منشورات تايلندييه، باريس).وفي البدء، يجدر التنويه إلى أنَّ Andalousie الحالية، بحسب التقسيم الإقليمي الإسباني، لا تضم كامل المنطقة التي اصطَلَح العرب على تسميتها بالأندلس، فهذه أوسع وأشمل، إذ ضمت وقتها إسبانيا وجزءًا من البرتغال.
يتعلق موضوع الكتاب بتفكيك "العقدة الكبرى"، التي طالما أرقت الضمير المسيحي، وهي التناقض الصارخ بين مبادئ المحبة والسلام التي يدعو إليها وبين ضراوة محاكم التفتيش والجرائم التي ارتكبت ضد العرب المسلمين، قبل وبعد أن يُخرجوا من ديارهم ويُسلبوا أموالهم. وللتخفيف من شعور الذنب هذا، نشطت المسيحية الأيبيرية المنتصرة في ابتكار "حب المورسكية" maurophilie بما هي إحساس بالتعاطف والشفقة إزاء المسلمين المُضطهدين.
ثم رسّخت الأعمال الأدبية وملاحم القرون الوسطى هذه النزعة حتى جعلت من المعارك التي دارت بين الفريقين وقتها مجرد "مواقع فُروسية نبيلة"، كما بنت أسطورة العيش المشترك بين الديانات الثلاث التي تمازجت في بوتقة واحدة. وفكك الكتاب عقدة ثانية: تلك التي ظهرت في المرحلة اللاحقة، الأقل وردية، حيث شاعت صورة جهالة المورسكيين واعتبارهم سببًا في تخلف إسبانيا وتأخر ظهور الحداثة فيها.ولذلك يعسر تصنيف الكتاب في خانة التأريخ السياسي، كأعمال سابقة لبيريز حول إسبانيا. كما أنه ليس بتأريخ ثقافي يرصد ظواهر الفكر ومنتجاته الذهنية، كما تعودنا في معظم الكتابات التي تناولت تاريخ الأندلس، بل هو أقرب إلى التحليل الإناسي لأهم الأساطير التي نُسجت حول هذه المنطقة وما عاشته من أحداث منذ وصول طارق بن زياد عام 711 حتى اندلاع الحرب العالمية الثانية.
ويُذكر للمؤلف سعيه إلى تحقيق التوازن بين حقائق التاريخ ومنتجات الخيال التي تغذيها مخاوف الراهن ورغباته، فتؤثر في تأويل تلك الحقبة، مما يولد إما مَشاعر تحسُّر على "الفردوس المفقود"، أو بالعكس إحساسًا بكراهية الآخر المغاير، يُترجَم بخطابات مُعادية تنادي بتشويه فترة حكم المسلمين واعتبارها مجرد احتلال. ولئن تعوّد المؤرخون والمستشرقون التركيز على الفترة الكلاسيكية، فقد جهد صاحب "تاريخ إسبانيا" في ربط تلك الحقبة بأهم المتغيرات الآنية التي تسم إسبانيا اليوم مرورًا بما عرفته منذ القرن السادس عشر. فهي قراءة تمتد في الزمن وتغطي اثني عشر قرنًا، مع التركيز على القرون الوسطى.وأما تبويب الكتاب فيبدو في ظاهره بسيطًا: مقدمة، عنونها بـ"من البوتيكا Bétique إلى الأندلس"، تطرق فيها المؤرخ الفرنسي إلى تحوّل هذه المنطقة من مقاطعةٍ ضمن الإمبراطورية الرومانية إلى ولاية أُموية طيلة العصر الوسيط، ثم مظاهر استعادة أوروبا لها ما بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر. وبعدها، قسم الكتاب إلى ثلاثة أجزاء بحسب أسماء المناطق: تناول في القسم الأول الحياة في غرناطة، ثم في إشبيلية وختمه بقُرطبة. وخصص الخلاصة إلى دراسة وضع هذا الإقليم اليوم.