الثقافي
الحكاية الأليمة لمي زيادة كما يرويها الأعرج
سلط الضوء على حكاية مريرة عن الفصل الأخير في حياة مي زيادة
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 23 جانفي 2018
“ليالي إيزيس كوبيا.. ثلاثمئة ليلة وليلة في جحيم العصفورية”، عنوان طويل لحكاية مريرة يرويها واسيني الأعرج، عن الفصل الأخير في حياة مي زيادة، التي لقبوها بملكة دولة الإلهام، وفريدة العصر، ونادرة الدهر، إلى آخر ما منحوها من ألقاب لكن من منحته قلبها ولجأت إليه في محنتها، شاء أن يكون لقبها الأخير ”مجنونة”، ليقتل روحها التي تعلقت به، فقد خانها مرتين، الأولى عندما تركها ليتزوج من فرنسية، والثانية حينما لجأت إليه شاكية ما بها بعد رحيل الأب والأم، فاستغل ثقتها وحصل منها على توكيل لإدارة أملاكها، لكنه استدرجها من القاهرة إلى بيروت واتهمها بالجنون وأودعها مستشفى للأمراض العقلية في لبنان، ليستولي على ممتلكاتها، وهو المكان الذي تذكره آخر كلمات العنوان “العصفورية” وهو المصح العقلي.
يؤطر واسيني الأعرج روايته، الصادرة عن دار الآداب ببيروت، بعنوان ينفذ إلى عمقها، فهو أولا: يشير إلى الكتاب العربي الأشهر ”ألف ليلة وليلة”، ولا يقدم عملا تاريخيا عن حياة مي زيادة بل نحن بصدد عمل أدبي تخييلي، حتى وإن تضمن شذرات من تاريخها وحكى عنها بعض وقائع معلومة سلفا. كما أن مي في الرواية هي التي تحكي وكأنها شهرزاد في ألف ليلة، لكنها هنا لا تحكي لشهريار لتنقذ نفسها، بل تحكي عنه لتدينه بعدما ارتكب جرائمه.
أما “إيزيس كوبيا” فهو الاسم المستعار الذي وضعته مي زيادة على غلاف ديوانها الأول “أزاهير حلم” والذي كتبته بالإنكليزية وصدر في القاهرة في مارس عام 1911، ليكون أول أعمالها الأدبية، ولكن باسم مستعار، قبل أن تبدأ في تقديم أعمالها باسم مي زيادة، قريب من اسمها الحقيقي ماري زيادة.
في العقد الأخير من حياة مي لم تنشر كتبا، تفترض الرواية أن لها مخطوطات مفقودة، وتنطلق من رحلة البحث عنها، لتشكل مخطوطاتها التي سجلت فيها أحداث أيامها في العصفورية متن الرواية. وفي الفصل الأول حديث عن الجهد الكبير الذي يبذله الراوي بمساعدة صديقته الباحثة
روز خليل للعثور على المخطوطة. ويشير الكتاب إلى أن أجيالا متعاقبة ركضت وراء تلك المخطوطات في كل اتجاه لأكثر من سبعين سنة لكن دون جدوى، ويتساءل عما إذا كانت ضاعت حقا أم أن القدر شاء غير ذلك فرماها في بقعة مظلمة ليجعل العثور عليها مستحيلا. ويستمر بحثه إلى أن يعثر عليها في مصر ويطابق بعضها مع أوراق كان قد توصل إليها عن طريق مقربين من الأديبة الراحلة في بلدتها الجبلية وتحمل عنوان “ليالي العصفورية”.
عبر هذه الحيلة الروائية نستمع لمي تحكي عن أحداث بعضها استقاه الروائي مما كتبته مي ومما كتبه عنها معاصروها، وتذكر تفاصيل اللعبة التي استغل فيها جوزيف زيادة، زوجها، محنتها النفسية للإيقاع بها وإيصالها إلى العصفورية بغرض الاستيلاء على أملاكها، تقول بدهشة “كنت أظن أن هذا لن يحدث إلا للأخريات، وها أنا أواجه الكابوس نفسه. لا فرق بيني وبين أي امرأة عادية”.
وتستمر حكايات مي لتكشف ليس فقط عن “تاريخها الشخصي، ولكن أيضاً عن الظلم الاجتماعي الذي تعرضت له من أهلها وأصدقائها. تدين كل من أجرموا في حقها”. وإذا كانت عائلتها تآمرت عليها فإن الجماعة الثقافية أيضا باعتها، وبدا ”كأن الجنون جاء ليرضي أعماق جماعة مريضة، لا ترى في المرأة إلا أداة متعة لا اعتبار وجوديا لها”.
وفي مخطوطتها تكتب عن صدمتها فيهم “كان قلبي مقهورًا من جيش الأصدقاء هناك… ما قرأته من تصريحات العقّاد، طه حسين، سلامه موسى جرح قلبي وقسمه إلى نصفين، وجعلني أفكّر في كل ما مضى وأتساءل أيّة حداثة، وأيّ مثقف ملتزم، عندما ترى صديقك الذي يشترك معك في هموم الدنيا، ينساك، بل يوغل فيك سكّينة صدئة؟“.
وبعدما تنفد حكاياتها تنفث أساها زافرة “أخيرًا دونتك يا همّ قلبي وجرحه، إلى أين أهرب بهذا الخوف الذي سيضيف لي رعبا جديدا؟ تحدثت فيه عن علاقاتي السوية وحتى غير السوية مع محيطي، عن الناس الذين عرفتهم وعرفوني. عن الذين أحببتهم، والّذين ركضوا ورائي باشتهاء عرفته من عيونهم”.
وهكذا تكابد وحدها أياما –وبحسب المخطوطة- تشبه الموت “لست أدري إذا ما كان الموت السريع هيناً، أما الموت البطيء طوال عشرة شهور وأسبوع من التغذية القهرية تارة من الفم، بتقطيع لحنة الأسنان، وطوراً من الأنف بوساطة النربيج ليصب ما يصب من الداخل نزولاً إلى الحلق فالصدر، فذلك موت لا أظن أن انساناً يحتمل الإصغاء برباطة جأش إلى وصفه”.
ولا تخرج مي إلا بما يشبه المعجزة، وبعد معركة قضائية مضنية قادها “أمين الريحاني”، تقف بعدها في قاعة “ويست هول” بالجامعة الأميركية في بيروت لتفاجئ الجميع بتجنب الحديث عن معاناتها، وكان بيانها العاقل البديع أبلغ رد على من اتهمها بالجنون.
بعد ذلك ظلت فترة في ضيافة أمين الريحاني الذي أعادها إلى القاهرة، وبعد عام واحد من عودتها رحلت عام 1941، ولم يكن في وداعها من الأصدقاء ورواد الصالون والقراء إلا ثلاثة فقط، هم أحمد لطفي السيد وخليل مطران وأنطوان الجميل، لتنتهي رحلة حياة وصفها واسيني الأعرج بأنها “جزء من حياتنا العربية المقهورة اليوم، ومطية لنكون شركاء في زمن بدأته هي وجيلها بعدها، بشجاعة وسط ذكورة متسلطة خربتها الحروب والهزائم والخيانات المتعاظمة، وأتممنا نحن كل البؤس المؤجل، بل مددناه أكثر بدلاً من كسره نهائياً ومنحناه كل سبل الاستمرار المتخلف والمتطرف أيضاً، لتصبح أجسادنا وقوده وجمره ثم رماده المثقل بصرخاتنا الأخيرة”.
مريم. ع/ الوكالات