الثقافي

حين تصنع الأسطورة نفسها

الفيلم الجزائري "قنديل البحر"

أحياناً ... فانتازيا الخيال قد تكون شديدة الواقعية في داخلها، ولكن علينا فقط أن نقرأها بشكل دقيق بعيد عن شكلها الخارجي، حتى ندرك الرسائل التي يلقيها المخرج أو الكاتب أو الرسام في هذه الفانتازيا، والتي قد يراها الجميع أنها لا تمت إلى الواقع بصلة.

ولكن -بالضرورة- أن الخيال والفضاء المفترض لا بدّ أن يتشكل في رحم الواقع قبل أن يبتعد عنه، فقضايانا الإجتماعية والإنسانية، مُلتصقة فينا إلى حد التوحد أحياناً، وهذه بعض الرسائل التي ألقاها الفيلم الروائي القصير الجزائري "قنديل البحر"، الذي ألفه وأخرجه المخرج الفرنسي ذو الأصول الجزائرية داميان أونوري، والذي سبق له أن شارك بالعديد من المهرجانات العربية والعالمية ونال وترشح للكثير من الجوائز، كان أهمها مشاركته في مهرجان "كان" السينمائي الدولي في فرنسا، وفي مهرجان "وهران" للفيلم العربي، الذي رُشِّح فيه لنيل جائزة المهرجان في فئة الأفلام القصيرة، وقُدم الفيلم ضمن فعاليات بمهرجان "كرامة" لأفلام حقوق الإنسان بدورته الثامنة وتحدث عنه الاعلام الأردني بإسهاب وأثنى عليه كثيرا.

وتدور أحداث العمل في مدينة "شرشال" الأثرية الجزائرية والمطلة على البحر المتوسط، حول عائلة مكونة من والدين وطفليهما، بالإضافة إلى أم الزوجة، خلال ذهابهم بنزهة إلى البحر للاستمتاع على الشاطئ.

ويركز على الأم الشابة "نفيسة"، التي جسدت دورها الفنانة عديلة بن ديمراد المشاركة أيضاً بتأليف الفيلم مع مخرجه أنوري، أثناء قيامها بالسباحة، حيث تأخذها خيالاتها وأفكارها إلى مكان بعيد عن الشاطئ دون أن تحس، ما يعرضها إلى التحرش الجسدي والإعتداء من قبل عدد من الرجال والشبان، حتى يصل الأمر خلال مقاومتها لهم، أن يقوموا بإغراقها وقتلها. ويبدأ الأب "سمير" الذي جسد شخصيته الفنان نبيل عسلي، بعملية البحث المتواصل عن زوجته، بمساعدة رجال الشرطة.

ويصنع الفيلم الجزائري أسطورة خاصة به، حين تتحول أحداثه إلى مكان غير متوقع، عندما تعود الأم القتيلة "نفيسة" إلى الحياة، ولكن بعد تحولها إلى "قنديل بحر" يخلو من أي شكل إنساني سوى بعض الحوارات الداخلية والمتبقية معها والممتلئة بالحب بينها وبين زوجها، وتبدأ برحلة انتقام طويلة من الذين شاركوا بقتلها، بل وأيضاً لكل من يحاول الوصول إلى الشاطئ، حتى تتمكن القوى الأمنية هناك من قتلها ووضع جثتها المشوهة بالقرب من أحد النصب التذكارية بمنتصف المدينة، يشاهدها المارة ويتجمهرون حولها.

ويحوي العمل العديد من الرسائل الإنسانية، منها ما ظهر ومنها ما خفي، وكان على المتلقي أن يحفر قليلاً داخل القصة حتى يجد هذه الرسائل الخفية، ومن رسائله الظاهرة للمشاهد، محاولته طرح قضية العنف ضد المرأة واضطهادها والاعتداءات الجسدية والجنسية التي تتعرض لها النساء في كل مكان، ومما خفي من هذه الرسائل، رمزية هذا الوحش الأسطوري الذي خلقه عمل "قنديل البحر" البشري، بقصد أن المرأة التي تعرضت في حياتها لهذه الإعتداءات الجسدية والنفسية، وللعنف بشكل عام، قد تتحول إلى وحش في المجتمع يفتك ليس فقط ممن اعتدى عليها، بل وأيضاً من الجميع، خاصة في الحالات التي لا يتم إنصافها بها، أو رد حقها واعتبارها لها، فغياب هذه العدالة، مع تاريخ الظلم الذي عاشته، لا بد له أن يحولها إلى هذا الوحش.

القسم الثقافي

 

من نفس القسم الثقافي