الثقافي
جاك دريدا.. عودة شبحية لفيلسوف التفكيك
قراءات نسبية ومختلفة لفكر يتعسّر الإمساك بدلالاته
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 30 أوت 2017
"جاك دريدا، فيلسوف الهوامش، تأملات في التفكيك والكتابة والسياسة"، مؤلف جماعي جديد يحتفي بجاك دريدا، الفيلسوف الفرنسي ذي الأصول الجزائرية صدر هذا الشهر بتحرير وتقديم محمد بكاي، وهو كاتب وأكاديمي جزائري (المركز الجامعي بمغنية)، من مواليد الشمال الغربي في الجزائر (تلمسان) سنة 1986، وتتأرجح اهتماماته بين اللسانيات، والفلسفة، والنقد الأدبي. تعمّق في مجال الحقل التداولي ونظريات التواصل، بين اللغويات، والفلسفة، والسوسيولوجيا، والتأويلات الثقافية، ليتفرغ لمجال التصورات ما بعد الحداثية في الفكر والإنسانيات، حيث حصل على دكتوراه علوم في التخصص ذاته، بإنجاز رسالة جامعية انصبّ بحثه فيها على "مقاصد الـمؤلف وإستراتيجيات الـمؤول في تحليل الخطاب الشّعري". صدر له مؤخراً عن دار الرافدين و(OPUS)، مؤلف تحت عنوان "أرخبيلات ما بعد الحداثة".
يبدو المؤلَّف الذي شارك فيه 21 باحثاً وباحثة من بلدان عربية مختلفة وصدر عن "ضفاف" و"الاختلاف" و"كلمة" و"الأمان"، تعبيراً عن الشغف بدريدا (1930-2004)، كتابة ونقداً وترجمة، فتراوحت البحوث المكونة للكتاب من مقالات احتفت بفكره الباروكي، بنظريات التفكيك والنقد أو ساهمت في ترجمة بعض فصوله المتناثرة إلى لغة الضاد، وترجمة بعض المقالات والدراسات الهامة التي كتبت عنه في لغات غير العربية. هؤلاء الباحثون ربما التقوا دريدا في الفكر أو في الواقع، فكانوا أصدقاءه فعلاً أو أصدقاءه فكراً أو مغرمين وشغوفين بفلسفته.
استهلّ الكتاب ببحث للراحل محمد البنكي من البحرين (1963-2010)، بعنوان "ما بعد حياة التخريبة"، إلى جانب مقالات أخرى لأسماء مثل محمد شوقي الزين من الجزائر ("دريدا الباروكي")، رسول محمد رسول من العراق ("نقد العلامة في فلسفة جاك دريدا")، محمد بكاي ("النقد والتفكيك بين الرؤية الفاحصة والقراءة الفاضحة")، مراد الخطيبي من المغرب، ("عبد الكبير الخطيبي وجاك دريدا أو الخيوط الناعمة بين الصّداقة الإنسانية والصّداقة الفكرية")، مديحة الدبابي من الجزائر ("مشكل الكتابة وتفكيك البنية الأنطوـ تيوـ لوجية لنسق الفكر الغربي")، صفاء فتحي، "مكتوب .com"، جلال البدله، "معضلة الوعد: نحو فهمٍ جديد للعلاقة بين التفكيكية ونظرية أفعال الكلام"، جهاد شارف، "فرماكون التـرجـمـة أو سرديات الإمـكـان".
أمّا الفصول المترجمة من المتن الدريدي فهي: "عن الإعجاب بنلسون مانديلا أو قوانين التفكير والانعكاس" (ترجمة عز الدين الخطابي)، "استبصارات دريدا عن العمى والعميان" (ترجمة محمد عيد إبراهيم)، "أجل الكتاب وبداية الكتابة" (ترجمة منذر العياشي)، "نـهايات الإنسان" (ترجمة منى طلبة). كما تضمن الكتاب ترجمة لبعض الدراسات التي كتبت حول دريدا في لغات غير العربية من بينها مقال ليونارد جاكسون، "الـميتافيزيقا النصية وأساطير دريدا الـمناهضة للأسس" (ترجمة ثائر ديب)، ومقال لــ دريديك أتريدج، "معنى أن تتبع جاك دريدا"، (ترجمة سمير مندي).
بما سبق يبدو الكتاب نوعاً من "ورشة كتابية" تعرض فلسفة دريدا ذهاباً وإياباً، تفكيراً ونقداً وتأويلاً، رامية إلى استخلاص الخبرة الفلسفية من تفكيكية دريدا. وصف محمّد بكاي جملة هذه البحوث بأنّها "عودة شبحية لدريدا أو عدوى لا تفارق القارئ لتجعل فكره مشرقاً وقلبه متشوقاً لمفكر هَرَم (Pyramide) كجاك دريدا". ويضجّ هذا الكتاب بحيويّة قرائيّة يشبّهها "بـمباراة لا نـهائية، بـمرارة مطلقة، مرارة الكتابة الثكلى بالحداد، التي لا تفنى لعنتها، فهي نصيات لا تنتهي لعبتها".
يثير محمد بكاي في تقديمه للكتاب جملة من التساؤلات والإرباكات: "كيف نال دريدا كل هذه البهرجة والضجيج الإعلامي بأميركا؟ من أين له هذا البريق الذي استحوذ عبره على فوكو وسارتر هناك؟ هل الاختلاف هو العملة النادرة التي كان يبحث عنها الوجه الأكاديمي والأخلاقي في أميركا؟ هل يثير دريدا كــ"ظاهرة" الإعجابَ أم الاشتباه؟" (محمد بكاي، "تقديم الكتاب: جاك دريدا وَهْمُ الـمعنى وَهَمُّ الكتابة"، جاك دريدا، فيلسوف الهوامش).
أفضت هذه التساؤلات إلى تفسير نجاح دريدا في حلّه للغز الكتابة، باحترافه للغز الاختلاف (différance) وبإتقانه لنظرية التفكيك التي شاع استعمالها في العالم شرقاً وغرباً وصارت موظّفة في مجالات مختلفة: بين الفلسفة والنقد الأدبي، والنظرية السياسية والفنّ، ووظّفها رجال الدّين والـمعماريون ونقاد الـموسيقى، وانتقلت من السينما إلى الهندسة مروراً بالتاريخ والقانون، وقد قاوم دريدا بشدّة الانتقادات التي وجّهت له متحدّياً المعايير الأكاديمية والنقد المرير.
يوضّح المحرّر في تقديمه للكتاب أنّه "عبر المساهمات المبثوثة في صفحات هذا الكتاب سعي نظري وتحقيق خطابي في جدلية دريدا ونصوصه المزعزعة لاستقرار الـمسلّمات الثنائية، بحث يتجذر في تدميرية النص واستحالات الـمعنى، وتعرّض موسوعي للاشتغال التقويضي على البنى التقليدية والبديهية وكشف لامعقوليتها". كما يبيّن كذلك أنّ هذه القراءات تطمح لـمضاعفة حركية الاهتمام الثقافي العربي بفكر التفكيك واستمراريته، للحصول على قراءات نسبية ومختلفة لفكر يتعسّر الإمساك بدلالاته.
مريم. ع/ الوكالات