الثقافي

صدر قديماً: "مستقبل الثقافة" ومصادرات العميد

على الرفّ

لم يكن طه حسين (1889-1973)، حين نشر كتابه "مستقبل الثقافة في مصر" عن دار المعارف (1938)، يعرف أنه كان في نهجه وتصوّره لموضوعه، وما توصّل إليه، يعيش خارج حاضر مصر وزمنها، بل وخارج علوم وأدبيات ومكتشفات النصف الأول من القرن العشرين عربياً وعالمياً.

مصادرة ثالثة: لمصر هوية "خالدة" مذ كانت ولم تتغير أبداً. مصادرة رابعة: مستقبل مصر محكوم بأن يتعلّم المصري "كما يتعلم الأوروبي، ويشعر كما يشعر الأوروبي، ويحكم كما يحكم الأوروبي، ثم أن يعمل كما يعمل الأوروبي، وأن يعرف الحياة كما يعرفها الأوروبي".

طبخة هذه المصادرات خليط من نظريات، أنتجتها أوروبا مطلع مرحلتها الاستعمارية، تقول بالعِرق المتفوّق، والعقل الشرقي المختلف بالماهية عن العقل الغربي، وخاصة تلك الدراسات الاستشراقية التي صاغت "شرقاً" تفترسه الخرافات، تمهيداً لاستعماره والاستحواذ على ثرواته، وأحيت ذاكرة روما في تقسيمها العالم إلى "غرب" متحضّر و"شرق" بربري، ووجهت علوم الآثار والتاريخ واللغة، لإحداث شروخ وفواصل بين سكان الوطن العربي، وفصل مصر بخاصة عن محيطها العربي وإلصاقها بأوروبا، إلى درجة أن الخديوي إسماعيل كان يبرّر حماقات رَهنه لمصر لدى صيارفة مالطا وباريس ولندن ويتلمظ بالقول إن "مصر جزء من أوروبا".

هذه الدلائل كان من شأنها أن تخفف من غلو طه حسين في ما ذهب إليه، وكان لا يتنافى فقط مع ما توفّر من معارف منذ وقت مبكر، بل ويتنافى مع طبائع العمران وعوائده التي شرحها ابن خلدون قبل أكثر من ستمائة عام. إلا أن التركيبة الثقافية التي نشأ عليها، التركيبة الأدبية، بمعزل عن أي علم من العلوم، شأنه في ذلك شأن من برزوا في أعقاب ما سمي "عصر النهضة" في أواخر القرن التاسع عشر، كانت أشبه بالغمامة العقلية التي حجبت عنه دلائل مناقضة لظنونه ورغباته.

ولم يكن هو وحده في هذا، بل المناخ الثقافي كله تقريباً الذي كان يعيش مثله خارج الزمان والمكان، فأشاد به وبكتابه، ولم يعتبره كتاب الموسم فقط بل و"الكتاب الأول من نوعه بعد الاستقلال"، كما ذهب إلى ذلك سيد قطب حين كان لا يزال عاملاً في مضمار النقد الأدبي.

ولن يحدث ردّ فعل نقدي جاد على كتاب من هذا النوع، إلا بعد سبعة عشر عاماً مرت على نشره، حين صدرت ملحوظة مهمّة، وإن مختصرة، عن عبد العظيم أنيس (1923-2009)، ومحمود أمين العالم (1922- 2009)، في كتابهما "في الثقافة المصرية"، الصادر عام 1955 في بيروت.

وبالطبع لم يهمل كلاهما في مقالات كتابهما المشترك، تفنيد خرافة التفرقة بين العقلية الشرقية والعقلية الغربية، التي جعلها طه حسين حجر زاوية في رؤيته للمستقبل، وخلصا إلى الحقيقة العلمية الثاقبة "أن العقل الإنساني واحد مشترك في خصائصه الجوهرية، وليس ثمة عقل شرقي وعقل غربي، أو ثقافة شرقية وثقافة غربية، وإنما هي اختلافات تقوم على أساس تغاير الملابسات الاجتماعية، وتمايز المستويات وتنوع العمليات الاجتماعية".

الوكالات

 

من نفس القسم الثقافي