دولي

صفقة القرن والعداء للقضية ولأصحابها

ترافق حرص حركة فتح على استقلالية القرار الفلسطيني مع شعار "عدم التدخل في الشؤون العربية"، واتضح أن ذلك الشعار انطوى على أقل قدرٍ ممكنٍ من الواقعية السياسية، فتدخّل الفلسطينيون في تلك الشؤون بأكثر مما أتاحه لهم تعاطف الشعوب العربية مع قضيتهم، ومتطلبات التقاء الطرفين، إرادياً، حول أهداف ورؤى مشتركة. واستمر تدخّل الأنظمة العربية في الشأن الفلسطيني، استثماراً لقضيتهم، تعويضا لشرعية داخلية منقوصة، توظيفاً لها اقتضى إخضاعا للقرار الفلسطيني. 

حالة انتظار جيوش إنقاذ عربية إما لا تصل، أو تخفق حين تفعل، جعلت الفلسطيني يلتفّ حول ثورته الوطنية منذ رصاصتها الأولى، وينتزع من الأنظمة العربية اعترافا بكياناته السياسية. ومن خلال اعترافها بهذه الكيانات، حاولت تلك الأنظمة الموازنة بين التخفّف من عبء الفلسطينيين (وقضيتهم) وإبقاء مجتمعات الفلسطينيين، ومؤسساتهم السياسية، تحت السيطرة والضبط. وفي المستوى الشعبي الذي لا يعرف المساومات السياسية، كان الفلسطينيون أقرب إلى المعارضة، وحَمّل وعيهم الجمعي أنظمة عربية مسؤولية عن نكباتهم المتلاحقة، فتشاركوا مع رفاق، وإخوة عرب، نشاطهم المعارض. في المقابل، ضمّت الثورة الفلسطينية في صفوفها كثيرين من حملة الجنسيات العربية، واستمر التداخل بين الحالتين الجماهيريتين، الفلسطينية والعربية، من دون أن يعني ذلك وعيا بجدلية العلاقة بين معركتي التحرّر والتحرير. 

التعددية السياسية و"ديمقراطية البنادق" منحتا الفلسطينيين شعورا بخصوصيتهم، مقارنة بمحيط عربي، ضيّقت عليه القبضة الأمنية للتخلي عن تعدّديته، قبل أن تنقلب هذه التعددية وبالا على 

"يعلن ترامب بنود "صفقة القرن"، مطمئنا أن لا أصدقاء حقيقيين، لا للفلسطينيين ولا لقضيتهم" الفلسطينيين، وعلى وحدة مشروعهم الوطني، وكانت مدخلا واسعا لتدخلاتٍ عربيةٍ في الشأن الفلسطيني؛ شرّعها السياسيون الفلسطينيون أنفسهم عبر بوابات المال والأيديولوجيا والبراغماتية والاستقواء بالآخر. الهوية الوطنية التي تم تعريفها سلبا حوّلت الشعور بالاختلاف نرجسيةً كان عليها أن تبقى إلى جانب الرومانسية الثورية حبيسة المخيمات. وبتحريضٍ من المستوى الرسمي، في كل مرة يخوض فيها فيما لا ينبغي الخوض فيه، وجد اللاجئ الفلسطيني نفسه، غير مرة، أمام حالةٍ شعبيةٍ رأت فيه قاعداً في حضن الآخرين، ويمارس، في الوقت نفسه، نتف ذقونهم. بدأ الفلسطينيون يدركون تدريجيا أن ثورتهم هي "ثورة المستحيل" التي عليها أن تحقّق المعجزات، في زمنٍ يخلو من الأنبياء، ويعجّ بأنظمةٍ عربيةٍ هي في الظاهر صديقة للقضية، لكنها فعليا عدو للفلسطينيين، طالما لم تمنحهم مركزية قضيتهم أي حقوق تتعدّى كرم الضيافة الذي استمر ملفاً تديره الأجهزة الأمنية. كان في الوسع تهميش أصحاب القضية وعزلهم عن محيطهم العربي، مع الاستثمار الدائم لقضيتهم ومركزيتها. 

بعد أن اكتشف الرئيس المصري الراحل، أنور السادات، "أن 70% من الصراع مع إسرائيل ذو منشأ سيكولوجي"، ومضيّه في صلح منفرد مع إسرائيل، بدأت الأنظمة العربية، منذ التسعينيات، تجتاز تلك الحواجز السيكولوجية، واستبدل العرب معركة السلام بمعركتي التحرّر والتحرير، بوصف السلام عنواناً لاستعادة الحقوق، وتحقيق الازدهار لشعوب المنطقة، وبدأ تحميل "الانشغال المبالغ فيه بالقضية الفلسطينية" (وفق تعبيرٍ لبطرس غالي) مسؤولية كل إخفاق داخلي، وكان عليها ألا تبقى مركزية. 

كما قادت حركة فتح الكفاح الفلسطيني المسلح، قادت لاحقا تحويل المسار الوطني نحو تعطيله لصالح نضالٍ على طاولة المفاوضات. وبعد "أوسلو"، تمت إعادة التمثيل الفلسطيني لصالح السلطة الوطنية الفلسطينية، وهمُّشت منظمة التحرير الفلسطينية والمجلس الوطني الفلسطيني، والمؤسسات الملحقة بهذا وتلك، ومعها تجمعات الفلسطينيين في الشتات، وانتهت الديمقراطية الفلسطينية عند صناديق الاقتراع. ووضعت حركة حماس حدّا للتداول السلمي للسلطة، بانقلابها عسكريا في غزة العام 2007، وتكرّس انقسام جيوسياسي، بات معه كل شيء يخضع لمنطق السلطة، لا لمنطق الثورة. في ذلك الوقت، كانت أجواء هجمات "11 سبتمبر" الإرهابية في العام 2001، وتبعاتها، مخيّمة دوليا، وُضِعَت "حماس" مبكرا في دائرة الإرهاب، ولاحقا على قوائمها، وحوصر فلسطينيو غزة حتى الإنهاك. في لبنان، زُرِعَتْ حركة فتح الإسلام في مخيم نهر البارد، تأكيدا على الإرهاب الفلسطيني المنطلق من المخيمات، وكان الكيّ أول العلاج لا آخره، وسياسة اجتثاث المخيمات تقدّمت الاهتمام بتحسين أوضاعها الاجتماعية والاقتصادية. 

كان على الفلسطيني أن يحمل حلمه بالعودة بعيدا عن حدود الأرض التي جسّدت هذا الحلم؛ ففي الكويت أُخِذَ اللاجئون الفلسطينيون بجريرة ساستهم وموقفهم المعلن انحيازا إلى الرئيس العراقي صدّام حسين، فتكرّرت رحلة لجوئهم، وتفتت مجالهم السوسيولوجي، ثم كانت تهمة الإرهاب ذريعةً لتصفية وجودهم في العراق بعد العام 2003. وفي سورية، أريد لتدمير مخيم اليرموك، أكبر مخيمات الشتات، أن يبدو ثمنا مناسبا لاقتلاع مارد الإرهاب الأكبر؛ تنظيم الدولة الإسلامية  

"مع موجات الربيع العربي، حسمت الشعوب أمرها في استعادة معركة التحرّر، المؤجلة لصالح معركة التحرير المعطلة" (داعش). لم يعد الفلسطيني هو فقط ذاك "الحربجي" الذي يُخشى أن تنتقل عدواه الراديكالية خارج حدود المخيمات، بل صار مصدرا للإرهاب الذي يهدّد الأمن العالمي. وفي سبيل ذلك، يبذل نظام عبد الفتاح السيسي في مصر، وكتبته من أشباه المثقفين، جهدهم بحثا عن جذور فلسطينية للإرهاب، فيلوون عنق التاريخ بأن يرسموا له مسارا خطيا يمتد من صالح سرية، ومحمد سالم الرحال، و"قواعد الشيوخ".. إلى "داعش"، مرورا بتنظيم القاعدة" وجبهة النصرة، وغيرهما من سلفيات جهادية، رفعت بنادقها في وجه عدويها، القريب والبعيد. يجري ذلك في وقتٍ يتقازم فيه الخطر الإسرائيلي، مقارنةً بنظيره الإيراني، بل باتت الدولة التي تمارس إرهابها اليومي بحق الفلسطينيين شريكا أمنيا لأنظمةٍ عربيةٍ أخذت على عاتقها مهمة لجم "البعبع" الإيراني. 

مع موجات الربيع العربي، حسمت الشعوب أمرها في استعادة معركة التحرّر، المؤجلة لصالح معركة التحرير المعطلة. تنوعت ردود الأفعال الفلسطينية حيال الربيع العربي، شعبياً ورسمياً، فبينما تحصّن اليسار خلف نظرية المؤامرة، ولم يتعاطف مع المنتفضين، أعادت سلطتا غزة ورام الله رسم تحالفاتهما في ظل موازين القوى المستجدّة، انطلاقا من البراغماتية السياسية، بما يخدم تكريس السلطة، وتثبيت مواقع كلتيهما في صراعهما على التمثيل، ومارستا القمع بحقّ المظاهرات الشعبية، والوقفات التضامنية مع المتظاهرين العرب. 

ومرة أخرى، وفي غياب الوعي بجدلية العلاقة بين معركتي التحرّر والتحرير، وبالنسبة لبعض قادة المعارضة العربية، وللفيف من مثقفيها، لم يعد من مبرّر لأي حاجز نفسي تجاه دولة الاحتلال الإسرائيلي. واكتشف بعضٌ آخر، متأخرا، أن قضية التحرير كانت عائقا أمام قضية التحرّر، فرمى باللوم على الفلسطينيين وقضيتهم، أو شمت بما آلت إليه أوضاعهم بوصفه ثمنا تحتّم عليهم دفعه، بعد وضعهم جميعهم في سلةٍ واحدةٍ يستوي فيها من "شبّح" مع الأنظمة ومن عارضها، رافضا الفصل بين التحرّر والتحرير، فنال نصيبه من الاعتقال أو الموت أو التهجير.

من نفس القسم دولي