دولي

عندما تتهيأ الإمارات لعلاقات علنية مع إسرائيل

إذا فرضنا أنَّ دولة الإمارات باتت غيرَ مهتمةٍ بأيّ صلاتٍ يفرضها المصير العربي المشترك، وفي المركز منه الوحدة على فلسطين، وقضيّتها؛ بوصفها المؤشِّر الأخطر لمعنى الالتزام بالخطر الخارجي، والمسؤولية الجماعية، تجاه قضيةٍ عادلة، صراعية، وكاشفة عن متانة الروابط العربية التي تُقدَّم جامعةَ الدول العربية تجسيدا لها، إذا فرضنا ذلك؛ هل يمكن للإمارات المُضيُّ متخفِّفةً من أيّ مكوّنات ثقافية ذاتية نحو دولة الاحتلال الإسرائيلي المُنبتَّة فكريا، وسياسيا، عن هذه المنطقة العربية، بوصفها مشروعًا غربيًّا مقحمًا، ودخيلا، وبوصفها دولةً وظيفيةً استعمارية، لا تلتزم حدود ذلك الدور، بل تتعدّاه إلى طموحات توسُّعية، ذات أبعاد دينية متطرّفة، بل عنصرية؟

مناسبة هذا الكلام ما ذكرته مصادر إسرائيلية مطَّلعة أنّ الإمارات وإسرائيل تجريان اتصالاتٍ مكثَّفة، بهدف الاتفاق على موعد الإعلان عن تدشين علاقات دبلوماسية وعلنية بينهما. ويأتي الخبر بعد نشر وزير الخارجية الإماراتي، عبد الله بن زايد، أخيرا، تغريدة على حسابه على "تويتر"، تتضمَّن رابط مقال نُشِر في مجلة "ذا سبيكتاتور" البريطانية عن العلاقات المتطوِّرة بين إسرائيل ودول الخليج؛ حيث عنوانه "تحالف عربي إسرائيلي يتبلور في الشرق الأوسط". وسارع رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلية بنيامين نتنياهو إلى اقتباس تغريدة الوزير الإماراتي، وعلَّق عليها، قائلا: "أرحِّب بالتقارب الذي يحدث بين إسرائيل والكثير من الدول العربية (..)، لقد آن الأوان لتحقيق التطبيع والسلام".

السؤال الجوهري والعملي: هل يمكن أن تَحْدُث الانعطافات، بل الانقطاعات، السياسية العميقة  بهذه السرعة والسطحية؟ هل نضجت في الإمارات تحولُّاتٌ فكريةٌ وثقافيةٌ تجعل هذه العلاقات المزمعة طبيعية ومريحة، فضلا عن أن تكون منتجةً، وضرورية؟

واضحٌ أن التسارُع، على مستوى البنية السطحية؛ إعلاميا، ودبلوماسيا، من شأنه إيجاد الزخم اللازم للتهيئة؛ تهيئة الرأي العام، نفسيًّا، لكن من دون رضا حقيقي، بالضرورة، ومعقول، أو مدروس، وذلك بما تملكه الدولة من سُلْطة التأثير، ماديًّا. وقد حصل شبيهٌ بذلك، مع مصر، مع أنَّ مصر أنور السادات اتَّكأت على أطروحات إحلال السلام العادل البديل عن الحروب، بعد حروبٍ خاضتها ضدَّ إسرائيل، وصوّرت اتفاق السلام مع دولة الاحتلال أنه جاء بعد القدرة العسكرية، ومن موقع القوة، والظفر بالحقوق، واسترجاع المحتل من الأرض، مع أن السادات كان حريصا وقتها، وفي خطابه أمام الكنيست الإسرائيلي، مثلا، على ضرورة إرجاع الحقوق الفلسطينية، بوصفها حقوقا عربية غير قابلةٍ للتهميش، لا من مصر، ولا من الدول العربية، وأنَّ تحقيق السلام الفعلي لا يمكن أن يتمّ من دون ذلك، إذ قال: "لم أجئ إليكم لكي أعقد اتفاقًا منفردًا بين مصر وإسرائيل. ليس هذا واردًا في سياسة مصر، فليست المشكلة هي مصر وإسرائيل. وأيُّ سلام منفرد بين مصر وإسرائيل، أو بين أيِّ دولة من دول المواجهة وإسرائيل، فإنه لن يُقِيم السلام الدائم، العادل، في المنطقة كلها. بل أكثر من ذلك، حتى لو تحقق السلام بين دول المواجهة كلها وإسرائيل، بغير حل عادل للمشكلة الفلسطينية، فإنَّ ذلك لن يحقق أبدًا السلام الدائم، العادل، الذي يلحّ العالم كله اليوم عليه". .. ومع ذلك، لم يتعمَّق السلام بين مصر  وإسرائيل إلى البِنى الفكرية والثقافية والوجدانية، إذ ظل التطبيع مع دولة الاحتلال ليس متوقفا فقط، ولكن، محظورا ومحذورا، ومستنكَرًا ومسبِّبا للمقاطعة شعبيَّا، ونخبويَّا.

لقد اضطر عبدالله بن زايد، مثلا، إلى الذهاب بعيدا، في تملّقه لإسرائيل، وفي تمهيده لعلاقاتٍ علنيةٍ معها، حين استعان بمقالٍ عن إصلاح الإسلام يهدف إلى إعادة إنتاج إسرائيل، الدولة المحتلة والقائمة على أنقاض فلسطين والشعب الفلسطيني، والماضية نحو استئصال ما تبقَّى من وجودها، حضارياً، كما كان مثلاً، في قانون القومية الذي ألغى، رسمياً وصراحة، أيّ اعتراف بأيّ لغة، وأيِّ قومية، غير اللغة العبرية، واليهودية، لغة للدولة، وللدولة دولةً لليهود، أما العرب فلا تتعدَّى حقوقهم، ونطاق كينونتهم، الأبعادَ الفرديةإ

نعم، تريد دولة الإمارات إعادة إنتاج إسرائيل، بما لا تقوله عن نفسِها؛ أنها دولة طبيعية في المنطقة بحضارتها وثقافتها، مغالِطًا، حين تبنّى ما نشره كاتب المقال الآنف الذكر، بين اليهود، بوصفهم مجموعةً بشريةً عاشت في المنطقة، فعلا، واندمجت فيها، تاريخيا. تريد أن تبني سلامها مع إسرائيل على أرضية المصالح المشتركة، وعلى تقديم الاعتبارات العالمية، والعلاقات السلمية، و(التسامُحيَّة)، والقيم العلمانية، أو بالأحرى، العلاقات مع واشنطن، وإقليميا، على العداء لحركات الإسلام السياسي السُّنٍّية، بعد أن روّجت الخطر الإيراني المشترك، وهي الحركات التي تصمها الإمارات بالإرهاب، ولو من دون أدلّة. تريد أن تُحدِث تحوُّلا استراتيجيا، ومفارِقا، على لحظةٍ عابرة، ومع أنها عابرة، فهي غير مواتيةٍ تماما، ولا ناضجة، إذ لا تبدو دولة الاحتلال في "أحسن حالاتها"، من حيث إظهار وجهٍ معقول، حتى دوليا، وغربيا، إذ هي متجهة، ومن دون مواربة، نحو اليمينيّة المتديّنة، والقومية، العنصرية، وممعنة في الاحتلال والاستيطان والتهويد، سيما للقدس، والمسجد الأقصى، بوتائر متسارعة، بقضم ما تبقّى من أراضي الفلسطينيين، بالضم، وفرض سيادة الاحتلال على ما تبقّى من أراضي الدولة الفلسطينية الموعودة والمتبنّاة من الدول العربية، ومن جامعة الدول العربية، وَفْق المبادرة العربية للسلام؛ ما جعل أوساطا أميركية معتبرة تحذِّر دولة الاحتلال أولا من خطر ما تقدَّم عليه، كما كان من مجلس النواب الأميركي، أخيرا. أما المصالح الاقتصادية الترويجية فلا تقف دعامة قوية في شرعنة هذا الاتجاه الانقلابي في العلاقة مع دولة الاحتلال، إذ لا تبدو الإمارات بحاجةٍ إلى مغريات إسرائيل، هذا إن كان لدى الأخيرة اهتمامٌ حقيقيٌّ به، إذ نحن لم نرَ منافعها الاقتصادية تحلّ بالدول العربية التي أبرمت معها معاهدات سلام، منذ عقود.

وأخيرا، الرسالة التي تتركها الإمارات، ولو بشكل غير مباشر، هي رسالة رئيس وزراء الاحتلال، أن القوة؛ قوّة إسرائيل، هي الكفيلة بإرغام العرب على الاعتراف بها، وقبول انخراطها الكامل في مجتمعاتهم، ومن دون الحاجة إلى تقديم أيّ استحقاقات، أو ما يراها تنازلاتٍ للفلسطينيين والعرب، بل ولو كانت دولة الاحتلال تُطْبِق على الضفة الغربية والقدس، وتعلن أنها أرض إسرائيل التوراتية غير القابلة للنقاش، وغير الخاضعة للقانون الدولي.

 

من نفس القسم دولي