دولي
لنصلِّ من أجل لبنان وفلسطين
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 26 أكتوبر 2019
فاجأت الاحتجاجات الشعبية، التي ما زالت تتفاعل في معظم المناطق اللبنانية، وفاقت توقعات جميع المراقبين والمحللين ومتعاطي «كار» السياسة محليًا وعالميًا. وبعيدًا عمّا ستفضي إليه من نتائج وتبعات، فقد فجّرت مشاهد الميادين الثائرة ينابيع أحلامنا بعد أن وصلنا، نحن العرب أهل الشرق، إلى حافة العطش والضياع في عتمة اليأس وركام الأمل.
قد نختلف حول كثير من التفاصيل التي نشاهدها أو نجهلها، لكننا يجب أن نتفق على أن تلك الحشود قد أطلقت قبضاتها وحناجرها سيوفًا لتهوي وتقطع حبال المشانق التي لفها أرباب الطوائف اللبنانية على أعناق شعب سالت دماء أبنائه على مذابح سياسيين جشعين، قاموا باختطاف الدولة والاحتفاظ بها كرهينة خدمة لمصالحهم ولفسادهم ولكسبهم غير المشروع.
لقد هتفت الجموع ضد الفساد والفاسدين، وضد الطائفية ومن ربّاها لتصبح قوقعتهم السحرية، فيتقاتل في أحشائها ابناء الوطن الواحد، ويعيش على سطحها جميع الساسة المتوحدين على دين الدولار ومنافع الإقطاع البغيض.
كانت الحرية عنوان تلك الميادين، ومحرّكًا لعودة الوعي إلى مكانته الإنسانية ولأخذ دوره في بناء المجتمع المدني السليم، والدولة الوسيطة المنصفة الحامية.
شدّتنا شاشات الفضائيات وتفاعلت معها شرائح الناس، فتفاوتت ردود الفعل بيننا، وتضاربت الأماني، لأننا في النهاية، كسائر العرب نولّي علينا سادة من طينتنا، ونحتكم لأمراء من طوائفنا المحلية ووجهاء من قبائلنا. ففي حين كان عرش الاستبداد في لبنان يترنّح، وكان نور العقل يفج حلكة الجهل والتجهيل، كنا نمارس، نحن المواطنين العرب في اسرائيل، من مواقعنا، طقوس الظلام ذاته، وكانت فئات بيننا تطعن خاصرة حرّيتنا في وضح النهار، وتدوس على زنابقها في «ساحة البلد». لم يمض وقت طويل على قضية منع ظهور الفنان تامر نفار على مسرح مدينة أم الفحم، حتى تكرر المشهد معه في قرية كابول الجليلية حين أُعلن، قبل أيام، عن إلغاء عرض فني كان سيقدمه تامر ضمن أمسية خيرية مخصصة لصالح جمعية مرضى السرطان.
عندما يحاصر التهديد والنيران مسارح البلد وفنانينها وساحاتها، لا يحق له التذمر من جور سلطان أجنبي، ولا الشكوى من بطش عدو غاشم
مضت القصة من دون أن تستثير أي ردود فعل حقيقية وجدّية؛ فباستثناء ندرة من بيانات الشجب الخجولة، لم نسمع صوت «المجتمع الحر»، ولا خرير الأحزاب أو ضجيج النخب المثقفة أو هزيم الطلائع الفيسبوكية الثائرة، كما سمعناها يوم خرجوا شاهرين بوستاتهم في وجه الوزيرة العنصرية ريغف، بعد أن أصدرت عدة قرارات قمع عنصرية بحق مسارح وفنانين عرب، وألغت عروضهم، أو حجبت عنهم الميزانيات الحكومية بتهمة عدم ولائهم للدولة.
لن نحصل على حقوقنا، نحن العرب في إسرائيل، ما دمنا نتصرف بهذه العقلية الهزيلة والمزيّفة وما دمنا نعيش بفيء ازدواجية معايير معيبة ومشينة؛ فمن يواجه الوزيرة العنصرية ريغف بصلابة ويدافع عن حقه في التعبير الحر، وفي الإبداع وفي الرقص وفي التمثيل، ويصمت، في الوقت نفسه، وهو عاجز أو مداهن أو خائف أو منتفع، عندما تضرب مطرقة الظلّام فنانًا كتامر نفار، أو غيره؛ أو عندما يحاصر التهديد والنيران مسارح البلد وفنانينها وساحاتها، لا يحق له التذمر من جور سلطان أجنبي، ولا الشكوى من بطش عدو غاشم.
كم قلنا ان للحرية سماء فسيحة واحدة وأن لها أرضا تقبّل نعال من يدقها بأرجل من نور وبهامات وضّاءة مكللة بالكرامة، وبألسن حرة ذربة، لا تحيد عن درب الحق ولا تمالق جائر.
لقد عرفنا، في حينه، أن مجلس بلدية أم الفحم كان وراء قرار منع عرض تامر نفار؛ وسمعنا، في حينه أيضًا، حجج البلدية في ذلك ولم نقبلها؛ بيد أنّ القضية تطوّرت بعد تدخل محكمة حيفا المركزية وإصدار قاضيها الاسرائيلي لأمر يلزم، باسم حرية التعبير، بلدية أم الفحم بإتاحة العرض كما كان مقررًا، ولكن رفض تامر نافر أن يظهر تحت «عباءة» هذا القرار الاسرائيلي، فانتهت الحادثة بصورة تجمع الفرقاء المتخاصمين، وهم متصالحون وباسمون.
أما قصتنا في كابول فمختلفة أكثر وأعقد؛ ففي ردّ على إلغاء فقرة الفنان تامر نفار قال رئيس المجلس المحلي: «إن المجلس المحلي لم يتدخل جملة وتفصيلا في أي برنامج ثقافي يقوم بتنظيمه المركز الجماهيري في كابول» وأضاف موضّحًا وآسفًا لأحد المواقع الاخبارية: «إن الحوار دار بين الأهالي عن طريق شبكة التواصل الاجتماعي، بين مؤيد ومعارض، الامر الذي أدى الى إلغاء الأمسية الفنية الخاصة بتامر نفار». قد لا نعرف حقيقة ما حصل، مثلما عرفنا تفاصيل ما حدث في أم الفحم، ولن نعلم من تدخل وفرض هذه النتيجة، لكننا نعرف بيقين أن الواقع يحمل في طياته «مؤشرًا مقلقًا»، وذلك كما وصف عضو ادارة المركز الجماهيري في كابول، وأكّد على أن: «تكرار مثل هذا المنع يعبر عن عقلية قمعية خطيرة تهدد بإخراس أصوات مختلفة قد يكون لها أثر سلبي على جيل الشباب».
لسنا في لبنان، ولكن ستقتلنا سياسة الإعراض المنتشرة بيننا وسيدمينا إدمان مؤسساتنا القيادية على دفن رؤوسها في صدر الخوف وفي حضن المنفعة؛ وسيقضي إسكات محركات المجتمع المدني وتواطؤ بعضها على منجزاتنا المكتسبة؛ فقد وصلنا اجتماعيًا إلى القعر ولن نخرج منه إلا إذا صرنا أحرارًا.
ولأولئك الذين نسوا طعم الحرية ننصحهم بمتابعة الشاشات اللبنانية، حيث ينتشر الأمل؛ فالحرية، وإن تمظهرت أحيانًا بأقنعة ملتبسة، تعشق دومًا صخب النشيد وتنطلق على أجنحة النغم، فيمشي الى جانبها الاستقرار على أرجل من فرح ومن حب. لقد حملت إلينا الاشرطة مشاهد من وحدة غير مألوفة في تاريخ لبنان الحديث، ونقلت بعض عدسات المصورين لقطات لمجموعات تغني وترقص وتستعرض أجسادها بخلاعة لا تناسب جسامة الحدث.
بعضنا ضحك على ما شاهد، وتندر آخرون على جينات الشعب اللبناني وخصصوصيته في عشق الحياة ومراقصة القمر؛ لكنني، رغم سيل التعقيبات، فتنت وكثيرون عندما شاهدنا شيخا لبنانيا جليلا وسمعناه ، في تسجيل شاع وانتشر، يحذّر من مواقف مَن حاولوا تسخيف ما يحصل في شرايين لبنان بسبب بعض مظاهر الرقص والخلاعة والغناء؛ فتساءل مستهجنًا بحق، أهذا كل ما يهمكم مما تشاهدون؟ ألا تهم مظاهر الوحدة اللبنانية الجبارة التي لم يعرفها لبنان منذ أكثر من ثلاثين سنة؟ لقد تعرفت الناس أخيرًا على بعضها فصار الشيعي قادرًا على دخول طرابلس والخروج منها سالمًا والعكس ايضًا صحيح.
يحاول اللبنانيون الخروج من قطعان أرباب الطوائف، ليحاربوا الطائفية والفساد؛ فحيّى الشيخ الجموع وخص قطاعات الشباب الذين سبقوا «جميع المشايخ ورجال الدين المحزبين إلى حالة الوعي»؛ فبدون هذا الوعي سيكون الدمار وتُفقد الحرية وتداس الكرامات.
سنصلي من أجل لبنان؛ ونتساءل من سيرفع عندنا هذه الراية ويصرخ كما أهاب هذا الشيخ وأكّد: «أنتم يا أركان المجتمع المدني بكل مركباته حتى بملحديكم، أنتم الاحرار. لديكم، كملحدين، مشكلة مع ربكم ولكنكم احرار» .
الحرية يجب أن تمتدح .. فمن يهب بلادنا، فلسطين، عقلا يأخذنا إلى ذلك الشاطئ القريب الآمن، ولسانا لا يسكت في وجه سلطان ظالم ولا يتردد أمام أخ عابث وقامع.
لنصلي من أجل لبنان..
ومن أجل فلسطين.
جواد بولس