دولي
جهاد سويلم .. رحيلٌ مفجع ومسؤوليّةٌ كبيرة
القلم الفلسطيني
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 30 سبتمبر 2019
بابتسامته التي لا تفارق ثغره في أقسى الظروف وأشدّها يلقاك على الدّوام، يحتفي بكَ في كلّ مرةٍ بحرارةِ اللقاء الأوّل، ويفرض عليك أن تذوب خجلًا من فرط تواضعه الفطريّ الذي لا تكلّف فيه، ومن عظيم ذوقه وأدبه الجمّ الذي لا تصنُّعَ فيه.
رحلَ جهاد سويلم؛ أبو عبد الرّحمن، رجل الخير الذي إذا أتيتَه محتاجًا إليه لدعم منكوبين أو محتاجين أو تحمّل مشروعٍ فإنّه يقبل عليكَ إقبالَ المحتاج إليك.
رحل جهاد سويلم كما يرحلُ النّسرُ شموخًا وكما ترحلُ الأشجارُ وقوفًا؛ لا يعرفه الكثيرون من أبناء الحركة الإسلاميّة فضلًا عن غيرهم، فهو ليسَ من أهل الشّاشات ولا من متصدّري وسائل الإعلام، ولا هو من فرسان التريندات والهاشتاغات على وسائل التّواصل الاجتماعيّ.
ورضي الله عن عمر بن الخطاب عندما أتاه البشير بالنّصر يوم نهاوند، فلمَّا قدِم عليه قال: أبشِر يا أميرَ المؤمنينَ بفتحٍ أعزَّ اللهُ فيه الإسلامَ وأهلَه وأذلَّ فيه الشِّرْكَ وأهلَه.
فقال عمر: النُّعمانُ بعَثك؟ قال: احتسِبِ النُّعمانَ يا أميرَ المؤمنينَ "أي أنّ النعمان لقي ربّه شهيدًا"، فبكى عمرُ واسترجَع.
قال: ومَن ويحَكَ؟ "أي ومن قُتِل ايضا في سبيل الله"، فقال: فلانٌ وفلانٌ وفلانٌ حتَّى عدَّ ناسًا ثمَّ قال: وآخَرينَ يا أميرَ المؤمنين لا تعرِفُهم، فقال عمرُ رضوانُ اللهِ عليه وهو يبكي: "لا يضُرُّهم ألَّا يعرِفَهم عمرُ لكنَّ اللهَ يعرِفُهم"
رحل جهاد سويلم الفارس من نوع مختلف؛ الفارس في ميادين الخير والسّعي على المنكوبين والمحتاجين والمحاصرين؛ إذ تعرفُ غزّة جيّدًا جهده وجهاده لأجل تخفيف وطأة الحصار عن أهلها، وتعرفه الضّفّة وهو يسعى بلا كللٍ ولا ملل في سبيل رفدها رغم حصار الصّهاينة ومن والاهم، وتعرفه القدس وأقصاها، وتعرفه مخيّمات اللّجوء في منافي الأرض حدبه على الأرملة والمسكين، وسعيه على الضّعيف والمنكوب، وتعرفُ القضايا العادلة في الأمّة حرصه على مشاريعها لتمكين الشّباب وتثبيت أهل الحقّ في مواجهة الطّغاة المستبدّين.
رحل جهاد سويلم بعد أن جسّد بشكلٍ عمليّ بعيدًا عن دورات التّدريب ومحاضرات التّثقيف حقيقة القائد الذي يهيمن على القلوب لا على الرّقاب، ولله درّ القائد حين يجمع بينَ التّواضع والعزّة، والدّماثة والحزم، والعمل والتخطيط، والجهاد والبصيرة، والحركيّة والرّشد، والرّحمة والقوّة.
رحل جهاد سويلم الذي لم يكن يرى العمل الخيري بابًا من أبواب البذل والعطاء فحسب؛ بل كان يتعامل معه على أنّه بوابةٌ عريضة من بوابات الدّعوة إلى الله تعالى وتجذيرِ الهوية وترسيخِ الثّوابت وتعميقِ الانتماء لهذا الدّين العظيم ورسالة الإسلام الخالدة.
رحل جهاد سويلم بعدَ أن جسّد اسمَه في سلوك حياته؛ فكانت حياته كلّها تدور بين الجهاد والسلام، فكان مجاهدًا يبذل كلّ الوسع والدّأب لخدمة دينه ورسالته وقضيّته والمستضعفين من أبناء شعبه وأمّته.
وكان مجاهدًا تلاحقه الأنظمة التي يقضّ مضجعها ابتسامة اليتيم والرّبط على جرح مكلوم ويثيرُ رعبها دعم المنكوبين، وتصمُ بالإرهاب كلّ من سعى لإيصال الدّعم إلى المظلومين والمشرّدين؛ فعانى من صنوف الاعتقال عند أنظمة البترودولار والتّشريد في منافي الأرض ما عانى بصمتٍ وصبرٍ واحتساب.
وكان سلمًا لإخوانه بقدر ما كان جهادًا لعدوّه، وكان سلامًا في الأرض ينشر فيها حبًّا ويبذر فيها عطاءً ويزرع في الحيوات المقفرة خيرًا ليغدو جدبها مروجًا ممرعة.
وبعد رحيل هذا القائد الفذّ تتحمّل الحركة الإسلاميّة مسؤوليّة كبيرةً تجاه هذه النّوعيّة من القادة الذين يمثّلون جانبًا مشرقًا ونادرًا من العمل الإسلاميّ غير أنّهم يرحلون بصمت بعيدًا عن ضجيج الإعلام.
إنّ هذا النّوع من الشّخصيّات القياديّة التي يمثّل د. جهاد سويلم أحدها هي نموذج لما يتطلّع شباب الأمّة لرؤيته في العمل الإسلاميّ لكنّهم لا يطّلعون عليه بسبب هيمنة وسطوة وسائل التّواصل الاجتماعي التي لا تكون هذه الشّخصيّات الفذّة عادةً من رموزها.
وهنا يمكننا القول بأنّ صمت هذه الشّخصيات حيال حياتها هو ضربٌ من الإخلاص الفرديّ؛ وهذا الإخلاص الفرديّ يزيدُ في المسؤوليّة الجماعيّة تجاهها على الأطر التي تنتمي إليها هذه الشّخصيّات.
إنَّ بعضَ الواجب تجاه هذه الشّخصيّات الرّاحلة بصمت وهي تمثّل نموذجًا فذًّا وصورة ناصعةً في العمل الإسلاميّ أن يتمّ تقديمها بوصفها رموزًا تُحتذى ونماذجَ تُقتفى آثارها؛ فتُنشرَ سيرتُها كما تُنشر سيرُ عظماء التّاريخ والقادة الأوائل وتقدّم للشباب والنّاشئة بصور متعدّة مقروءة ومرئيّة ومسموعةٍ كي يعرفوا أنَّ في العمل الإسلاميّ جوانب مشرقة لا تتيح لها الظروف للخروج إلى العلن، و حتّى تعرف الأجيال أنَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد ترك من بعده رجالًا في زمنٍ عزَّ فيه الرّجال.
محمد خير موسى