دولي

حفنة من غبار

القلم الفلسطيني

العنوان أعلاه ليس لكاتب السطور، بل للشاعر الفلسطيني محمود درويش، كان درويش قد استقال من عضوية اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، فعلها احتجاجا على توقيع اتفاق أوسلو سيئ الصيت، وكتب منفعلا مصدوما بما جرى قبل ربع قرن ويزيد، تحدث عن الوضع الذي سننتهي إليه بعدها، ووصفه بأنه السلام الذي سيتركنا «حفنة من غبار»، رحم الله درويش، الذي رحل عنا قبل أن يختنق بغبارنا.

قفزت عبارة درويش ونبوءته البليغة من قاع الذاكرة، وبدت كأدق وصف لما نراه، من ردود الفعل الرسمية الفلسطينية والعربية والإسلامية على قرار نتنياهو الأخير، القاضي بالضم النهائي الرسمي لوادي الأردن وشمال البحر الميت إلى كيان الاغتصاب الإسرائيلي، أي ضم ثلث أراضي الضفة الغربية، بعد ضم القدس المحتلة رسميا، والتمهيد لضم بقية أراضي المستوطنات اليهودية، التي يعيش فيها 400 ألف مستوطن، إضافة إلى 200 ألف مستوطن في القدس، أي ضم ما يزيد على نصف الضفة الغربية، التي يعرفها نتنياهو باسمها التوراتي «يهودا والسامرة»، ولا يجد حرجا في إعلان رغبته بالضم النهائي للضفة الغربية بكاملها، ومن دون أن يخشى شيئا، فالسلطة الفلسطينية اكتفت بإدانة إعلان نتنياهو رئيس وزراء العدو، ووصفته بأنه يقتل فرص السلام، وسجلت رضاها عن ردود فعل الدول العربية، التي اكتفت هي الأخرى بالشجب والإدانة والتنديد، ونعت على نتنياهو تهديده لجهود السلام، ووضعت في نهاية بيان اجتماع وزراء الخارجية العرب عبارة بليت من كثرة استنساخها، تتحدث عما يسمونه «مبادرة السلام العربية» الموروثة عن قمة 2002 في بيروت، وكأنها بذلك تفحم نتنياهو وزمرته، وتضع حدا لعدوان واحتلال إسرائيل، وهذا ما ستفعله غالبا دورة اجتماعات وزراء خارجية منظمة التعاون الإسلامي، التي دعت إلى عقدها المملكة السعودية خادمة الحرمين، وكأنها بذلك تغلق القوس المفتوح، وتعبر بما يكفي عن الغضب وبرو العتب، وتسيل الحبر الكافي على ورق بيانات الإدانة، رغم انشغالها بما هو أهم عندها من القضية الفلسطينية، التي صارت على هامش التلاوة الفعلية، بينما المتن محجوز للقضية الأم، وهو إحلال العداوة لإيران محل العداوة لإسرائيل، بل والاستعانة بإسرائيل نفسها، وبالصديق نتنياهو نفسه، في مجهود التعبئة الحربية ضد إيران.

ولا نريد بدورنا، أن نستنكر ونشجب بيانات الدول العربية والإسلامية، ولا أن نحمل على ما فيها من ضعف وتهافت، ولا أن نسترسل في التعبير عن اليأس من أحوال أمة، تحول المتحكمون بأمرها إلى «حفنة من غبار»، فالضرب في الميت حرام، ونفض الغبار، قد لا يولد إلا غبارا جديدا، يصيب العين بالرمد على ما فيها من وهن قديم، فليست القصة في تقصير ينسب إلى هؤلاء، وحاشا لله أن يكونوا من المقصرين، بل هم جادون جدا، ومنهمكون في ما يمليه عليهم الواجب تجاه إسرائيل وربتها وربتهم أمريكا، ويؤدون أدوارا تكاملية محسوسة، يكون فيها الفعل اليومي لكيان الاحتلال، والمساندة التلقائية من أمريكا، وبيانات العرب والمسلمين الرسمية من لزوم ما لا يلزم، ففعل إسرائيل العدواني والاغتصابي، يحتاج إلى من يسنده عمليا من العرب، حتى لو بدت الألفاظ صوريا في خانة الإدانة، فالمهم عمليا هو الأفعال لا الأقوال، وأقوال هؤلاء لا تتبعها أفعال، بل يعتبرون الأقوال هي ذاتها الأفعال، ويغلقون الدكان، ويغسلون أيديهم من القضية كلها، بعد رصف البيانات المعتادة.

ما من حقوق تستعاد بغير المقاومة، والحق الذي لا تسنده القوة والمقاومة ضائع بالتأكيد

وكلما أعلنت إسرائيل حربا جديدة، يردون عليها بإعلان السلام، في إشارة طمأنة لنتنياهو وأمثاله، تدعوهم لمواصلة فعل ما يريدون، ومن دون التحسب لرد فعل عملى واحد، ولو في أبسط الصور، اللهم سوى ذر الغبار في العيون، وكسب المزيد من الوقت للحبيبة إسرائيل، وإلى أن تستكمل عملية قضم الضفة الغربية، والتهام القدس وهدم المسجد الأقصى، وساعتها يعود وزراء الخارجية أو الحكام للاجتماع، ويصدرون البيان نفسه، ويذكرونك بحكاية السلام ومبادرة السلام إياها، وكأن السلام في عرفهم، هو الخضوع غير المشروط لمنطق القوة الإسرائيلية، والتسليم بأحكامها التي لا ترد، وكأن القصة وصلت إلى نهايتها، ولم يعد أمام العرب، سوى الوقوف عند «حائط مبكى»، يسمونه بالسلام، والبكاء بين يدى وثن اسمه مبادرة السلام، التي صارت لفظا محنطا رذيلا، منقطع الصلة بعالم الأفعال والتطورات الملموسة.

وقد بدا الافتراق ظاهرا، حتى في لحظة إعلان نتنياهو الصادم الأخير، كان نتنياهو يتباهى بإعلانه ضم وادي الأردن في حفل انتخابي جرى في مدينة «أسدود» المحتلة، بدا نتنياهو في حالة طاووسية منتفشة، ناوله أحد حراسه البيان المكتوب، وما كاد نتنياهو يعلن متعجرفا عن قرار الضم، حتى أحاطه الحراس الغلاظ من جديد، وشدوه بعيدا عن المنصة، وهربوا به مذعورا إلى مكان طوارئ مجهول.

وقد يقال لك، إن مبادرة سلام أعادت سيناء، ومساحتها تعادل ثلاثة أمثال ونصف مثل مساحة فلسطين التاريخية بكاملها، وهذا قول صحيح شكلا، لكنه يتجاهل الحقائق الأهم، فقد سبق أن عادت سيناء ـ ومعها غزة وقتها ـ لمصر بعد حرب 1956، ومن دون عقد معاهدة سلام ولا تطبيع، هذه واحدة، الحقيقة الأخرى الصلبة، أن سيناء عادت بعد حرب ومقابل ثمن فادح، هو خروج مصر بثقلها المركزي الحاسم من خط المواجهة مع كيان الاغتصاب الإسرائيلي، ثم إنها عادت بشروط نزع السلاح في غالب أراضيها، وهو ما تدفع مصر ثمنه مضاعفا من دماء بنيها إلى اليوم، في حرب استرداد سيناء الثانية الجارية، بينما المقاومة الشعبية المسلحة فعلت وحررت بكرامة، وأعادت جنوب لبنان بدون اتفاق سلام ولا صك تطبيع، واستعادت غزة بعدها، وفككت المستوطنات اليهودية فيها، بدون اتفاق سلام ولا صك تطبيع، وأجبرت إسرائيل على الانسحاب الذليل في الحالتين، فالمقاومة ليست فقط تعبيرا عن رفض الاستسلام، بل هي الطريق الوحيد لاسترداد الأرض المحتلة، وهو ما جرى في تجارب كل الشعوب الحية، وفي تجربة الكفاح ضد الاحتلال الإسرائيلي الاستيطاني الإحلالي، وهو ما يؤكد عليه درس القذائف التي هرب منها نتنياهو، وأطاحت بنشوته الطاووسية.

عبد الحليم قنديل

 

من نفس القسم دولي