دولي

تفجيرات غزّة الانتحارية.. سياقات ومخاوف

القلم الفلسطيني

تذكر المعطيات الواردة من قطاع غزّة؛ أنّ منفذي الهجومين الانتحاريين الأخيرين على نقاط للشرطة في قطاع غزّة يعتنقون فكرا منحرفا، في إشارة إلى الأفكار ذات الصّلة بتنظيم "الدولة الإسلامية" وما يدور في فضاءاته الفكرية، هذا إلى جانب الإشارة إلى انتماء بعضهم، أو بعض رؤسائهم، إلى تنظيم فلسطيني مقاوم، وهو الأمر الذي ينبّه بدوره على خطورة تسلّل هذا الفكر إلى المجتمع الفلسطيني، واستحكامه فيه، وتمدّده داخل الفصائل الفلسطينية، في عمليات اختراق مُهلِكة ومميتة.

بمجرد ملاحظة التفجيرين، يمكننا تخيّل الفجائع التي سيغرق فيها الفلسطينيون أكثر لو تمدّد هذا الفكر واستطال، إذ لم يجد هؤلاء الراغبون في الانتحار شيئا يفعلونه إلا قتل الفلسطينيين، وضرب نقاط الشرطة المعنية بالأمن المدني والاجتماعي، في حين تُطبق المؤامرة على فلسطين، ويَشتد الحصار على قطاع غزّة، وتَحفّ المخاطر المدمّرة القطاع باستمرار، فلا يمكن والحال هذه؛ النظر إلى تصوّرات سويّة تحكم هؤلاء الفاعلين.

وبالقدر الذي يجري الحديث فيه عن أبعاد سياسية، لا يصحّ إغفالها، قد تقفّ في النهاية خلف هذه الحوادث، فإنه لا ينبغي في المقابل الغفلة عن وجود من هو مستعدّ للموت بتفجير نفسه في جيرانه وأقاربه وأهل بلده، مما يعني أنّ البعد الفكريّ حاضر، كما هي حاضرة الأبعاد الأمنيّة والسياسيّة.

يفتح ذلك على فصائلنا، ولا سيما الإسلامية المقاومة منها، الأسئلة عن مناعتها أمام تسلّل هذه الأفكار، وقدرة مربّطي المؤامرات على استغلال أمثال معتنقي هذه الأفكار ممن ينتمون للفصائل. وبكلمة أخرى، وبما أنّ كلّ فصيل مقاوم معنيّ بأمنه أمام مخطّطات الاحتلال الاستخباراتية، فيفترض أنْ يكون معنيّا بأمنه الفكري، الذي سيتجلّى خلله لاحقا بالضرورة، في مشاهد أمنية، كما حصل أخيرا.

الرخاوة القابلة لاستيعاب صور من الانحراف الفكري، إمّا لصالح التجميع والاستقواء بالأعداد، أو بسبب اللدونة الفكرية التي ينجم عنها تسامح مع كل ما ينسب نفسه للإسلام.. ليست إلا نتيجة للتشوش الفكري والثقافي، والحسابات السياسية التنظيمية الضيقة، والقصور القيادي والإداري، في حين ينبغي أن يكون من وظائف هذه الفصائل ومجالات اشتغالها؛ التعبئة الفكرية، والتوعية السياسية، وإغلاق كل منافذ الانحراف داخل صفوفها وداخل المجتمع، لا سيما وأنّ جانبا مهمّا من الصراع يرتكز إلى الوعي، بيد أنّ هذا الاهتمام يمكن القول، وبكل ثقّة، إنه منعدم، مما يكشف عن رداءة الكفاءة في القيادة والتخطيط وإدراك الأولويات وكيفيات العمل، والاهتمام بكل ما يعزّز من مشروع مواجهة الاحتلال.

بالتأكيد ثمّة مسبّبات أخرى، لوجود حالات من هذا النوع، لا نملك المعطيات الدقيقة لتحديد حجمها، إلا أنّ هذا لا يغيّر من الأمر شيئا. إذ لا بدّ من التعامل مع كلّ حالة، مهما كانت صغيرة أو معزولة، حتى لا تنمو أكثر في ظلّ المغذّيات، كظروف الحصار، أو المشكلات المركّبة، أو الصراع السياسي، أو فشل الحركة الإسلامية التقليدية، أو المؤامرة التي تستهدف قضيتنا عموما، وغزّة وما فيها خصوصا، وسوى ذلك مما لا يتّسع له المقام.

يُفترض أنّ الجهات الأمنيّة في غزّة قد امتلكت المعطيات التي تضع فيها الحادثتين الأخيرتين في سياقهما الكامل. وبغض النظر إن كانت الحوادث الأخيرة ترجع إلى تدبير أبعد وأعمق من مجرد اعتناق بعض العناصر لأفكار تكفيرية قاتلة، أم لا، وإن كان للاحتلال صلّة بها، أم لا، فإنّ مثل هذه الاحتمالات لن تكون بعيدة عن غزّة، في أيّ وقت. فالإرادات الإقليمية والدولية ما تزال مصرّة على تصفية القضية الفلسطينية والحركة الإسلامية، وما يجري في الإقليم يُفترض أنّهم يشتغلون على الوصول به إلى غزّة، حيث العقدة التي تجمع في ذاتها ما بين التصنيفين؛ مقاومة إسلامية تكاد تكون وحدها في العالم من يواجه المشروع الإسرائيلي فعلا.

يستوجب ذلك قدرا متحفّزا من الحذر والنباهة واليقظة، وعملا مسؤولا لتطويق كل الأزمات سلفا، ومعالجة كلّ الأخطاء، ومتابعة دقيقة لكل ما يمكن أن تُدفع من خلاله الفوضى والعنف، بما في ذلك الصراعات السياسية المحليّة والإقليميّة، التي قد تتخذ غزّة ساحة من ساحاتها.

قد يكون ما نشره الصحفي يهوشع براينر في هآرتس 3-9-2019 نموذجا واحدا من بين الكثير من النماذج التي كتبها في الأشهر الأخيرة.يسعى الكاتب وكجزء من منظومة الاحتلال الغاشمة للتفريق بين الأسرى مستخدما تكتيكا مشبوها ومعروفا يعتمد على الانحياز الموهوم والمخادع لجزء من أسرى الشعب الفلسطيني، فهو يعتبر ومن خلال اقتباسات مؤيدة لاعتقاده أن إسرائيل ومصلحة السجون لا تفهم إلا لغة القوة، -وقد يكون هذا صحيحا-.

كما يعتقد أنها تعطي لحماس وتحت ضغط الإضرابات والتهديد بالتصعيد ما لا تعطيه لأسرى فتح ممن لا يستخدمون أساليب التهديد والوعيد -وهذا ليس صحيحا فمصلحة السجون ما زالت تتخذ إجراءات وعقوبات خاصة ضد أسرى حماس تحديدا بدأت منذ احتجاز الجندي شاليط وزادت باحتجازها لثلاثة مستوطنين في الخليل-، وهي فكرة يعتمدها تحديدا اليسار في إسرائيل للتحريض على جزء هام من الشعب الفلسطيني، وهو ذاك الذي يحمل ويتبنى مشروع المقاومة بجميع أشكالها.

كما يحاول الكاتب الإسرائيلي براينر "التنبيش"، وفي أحسن الحالات التعاون مع بعض المصادر غير الموثوقة داخل السجون من أجل التحريض ضد أسرى حماس عن طريق ما يعتقده فضحا لطرائق مصلحة السجون الضعيفة أمام حماس لتشكيل ضغط عليها من أجل التراجع عن وعودها واتفاقاتها مع الأسرى.وقد نجحت بعض كتاباته في إفشال بعض التفاهمات، وبالتالي التسبب بتوتر ومشاكل وتعريض أمن السجون ومن يعيش فيها للخطر. وفي هذا السياق أشار كاتب المقال إلى قيام مصلحة السجون بالسماح لقادة من حماس للاجتماع في سجن رامون، ومنهم عباس السيد ومعمر الشيخ ومحمد عرمان وأشرف الزغير، مشيراً إلى العملية التي قام بها كل واحد منهم، ليس للتمجيد كما يفهم الأمر فلسطينيا ولكن من باب انظروا مع أي نوع من "القتلة" يتفاوضون؟!

ساري عرابي

 

من نفس القسم دولي