دولي
المقاومة المفيدة.. المقاومة المسيئة
القلم الفلسطيني
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 14 أوت 2019
ينبغي الاستدراك سلفاً أن المقاومة، بكل أشكالها وسائر مسمياتها ومختلف أزمنتها، هي أنبل ظاهرة نضالية عرفها تاريخ حركات التحرّر الوطني الباسلة، وأن المقاومة المسلحة على وجه الخصوص هي أرقى أداة كفاحية اجترحتها الشعوب المستعمَرة في العصر الحديث، في مواجهة قوة أجنبية طاغية، الأمر الذي لا يصح معه التمييز بين وجوه المقاومة وصورها مطلقاً، أو نعتها بأي صفة مسيئة، على نحو ما قد يشي به العنوان أعلاه، الموظّف أساساً لغاية جزئية، سوف يلي شرحها.
والحق أن كل دروب المقاومة مجدية، مهما تواضعت درجاتها، بما في ذلك الصمود والتمكين والاعتصام والمظاهرة، كما أن كل تجلياتها وتعبيراتها عظيمة، حتى وإن كانت في صورة قصيدة أو أغنية أو ندوة فكرية، فما بالك إذا ما تعلق الأمر بالتضحية والفداء والبندقية؟ أي على نحو ما اتسمت به الحالة الفلسطينية، صاحبة أطول ثورة، تنوعت أشكالها وتعدّدت أدواتها، من دون أن تتغير أهدافها في طلب الحرية ونيل الاستقلال؟
لقد فرضت هذه الثنائية المتعسّفة (المفيدة والضارّة) نفسها على الرأي العام العربي والفلسطيني في الآونة الأخيرة، غير مرة واحدة، وذلك عندما راح رافعو راية المقاومة في قطاع غزة يباركون كل عمليةٍ فدائية تقع في الضفة الغربية، يشيدون بها ويعظّمون أبطالها إلى أبعد الحدود (وهم يستحقون ذلك) فيما ظل المهللون لخيار المقاومة يتغاضون عن الشيء نفسه، ويلتزمون الصمت المريب إزاء أي عملية مماثلة تحدث عبر السياج الفاصل، الأمر الذي أثار أسئلة لا تخلو من الدهشة والاستياء.
ففي أواخر الشهر الماضي (يوليو/ تموز) عبر فدائي من قطاع غزة السياج، واشتبك أكثر من ثلاث ساعات، جرح خلالها ثلاثة جنود للاحتلال قبل أن يستشهد المقاتل هاني أبو صلاح. وهذه مواجهة ناجحة جداً بالمعايير الفلسطينية، مفعمة بروح البطولة الفردية. إلا أن أصحاب الجملة الثورية الاستشهادية الذين لم يتبنّوا هذه العملية، ولم يباركوها كما جرت العادة، تجاهلوا هذه الواقعة المثيرة للإعجاب، بل وامتنعوا عن المشاركة في مراسيم الجنازة، وكأن بطلها قارف رِجساً من عمل الشيطان.
وكان لسابقة التجاهل هذه أن تمر من غير جلبة تتعدّى سجال فضاء العالم الافتراضي الذي عاب روّاده على أولي الأمر في غزة نبذ عمل بطولي، سقط فيه شهيد مقدام، وذلك إلى أن جرت عملية أكبر على السياج الفاصل نفسه، راح ضحيتها أربعة شبان قيل إنهم ينتمون لحركة حماس، حيث تكرّر التجاهل ذاته، وساد صمت أولياء الدم إزاء عدوان إسرائيلي أشد وطأة، وأفدح من سابقه، فيما راح المرحبون بكل عمل مقاوم ضد الاحتلال في الضفة الغربية يهزجون لعملية طعن مستوطن قرب بيت لحم، قائلين إنها عملية قرّبت موعد طرد الاحتلال من القدس والضفة الغربية.
وأكثر من ذلك، بدت تعقيبات كبار المجاهدين والناطقين الرسميين في غزة، على ارتقاء أربعة شبّان، أعمارهم في بداية العشرينيات، مفتقرةً للغضب، خاليةً من الحرارة والتأثّر، إن لم نقل إنها كانت اعتذارية، وتبريرية أيضاً، أملتها، كما قالوا، حالة الإحباط السائدة لدى الشبان العاطلين عن العمل في القطاع المحاصر، الأمر الذي بدت معه تلك الأقوال المعيبة أقرب ما تكون إلى التوصيف المحايد، والتحليل الصحافي المجرد، وهو ما أملى على المستغربين كل هذا التشخيص البارد، ومنهم كاتب هذه الإطلالة، طرح التساؤل الممض عما يتلطى وراء الأكمة.
ومع أنه يمكن إبداء بعض التفهم لحالة النأي بالنفس السائدة في قطاع غزة، وتقبل مغزى تحاشي ردود فعل انتقامية إسرائيلية ضد القطاع المُنهك، إذا ما تم إطلاق صاروخ، أو جرى تبنّي عملية فدائية عبر السياج، غير أن ما لا يمكن فهمه ولا تقبله، اعتماد هذه الازدواجية القائمة على التمييز بين عملية مفيدة مرحّب بها في الضفة الغربية وعمل مستنكر يقع في غزة، على قاعدةٍ تعيد إلى الذاكرة حرب بشار الأسد ضد شعبه، حين انتشر في حينه شعار "سورية المفيدة" على أساس أن كل البلد خارج نطاق دمشق والساحل، حيث معقل النظام المتآكل، أراضٍ سورية غير مفيدة.
عيسى الشعيبي