دولي

لبنانيون وفلسطينيون

مشكلة الحقوق الإنسانية في الشرق الأوسط أنها مرتبطة بالأبعاد الطائفية والقومية لكل مجموعات هذا الشرق. وعليه، تبقى المحاربة من أجل الحقوق بطريقة إنسانية ضرباً من الجنون. ذلك، لأن "الأوصياء" على الطوائف والقوميات لا يريدون أن يتحقق مفهوم "العدالة الاجتماعية" بحدّه الأدنى حتى، من دون المرور بالعصبيات الدينية والمذهبية والمناطقية. ما حدث في الوسطين، اللبناني والفلسطيني، في لبنان أخيراً، تأكيد على ذلك.

في 10 يوليو/ تموز الحالي، أطلق وزير العمل اللبناني كميل أبو سليمان، ما سماها "حملة لمكافحة العمالة الأجنبية غير الشرعية"، تشمل إغلاق المحال التي توظّف عمالاً أجانب بشكل غير قانوني، وتنظيم محاضر ضبط بالشركات التي تشغل العمال الأجانب من دون إجازات عمل لهم. في أي دولة، يُعتبر مثل هذا القرار ضرورياً وإيجابياً لتحصين سوق العمل، ومنع الهدر الضريبي، ولكن جملة الأخطاء المرتكبة أدت إلى نشوء أزمة غير ضرورية.

الخطأ الأول يكمن في اعتبار الفلسطينيين في لبنان "أجانب"، بينما في الواقع هم "لاجئون"، في ظل عدم إقرار حق العودة من جهة، وعدم وجود دولة فلسطينية فعلية من جهة ثانية. لا يستلزم ذلك فتح معركة وجودية بين الجانبين. لا اللبناني قادر على إنهاء الفلسطينيين ولا الفلسطينيون قادرون على "احتلال" لبنان بحسب الأدبيات التي برزت في الأيام القليلة الماضية. القليل من الهدوء يكفي لتبيان أن التهوّر والانجراف العشوائي غير مفيدَين للفريقين.

الخطأ الثاني تمثل في استحضار كثيرين لغة الحرب اللبنانية (1975 - 1990)، والتي كان العنصران، اللبناني المسيحي والفلسطيني، ركنين أساسيين في أجزاء منها، بينما تبدو الأوضاع، في الواقع، مختلفة تماماً عما كانت عليه عشية الحرب، فالظروف الحالية مغايرة للظروف السابقة. لا الإقليم قادر على التدخل المباشر، ولا الداخل قادر على إشعال حربٍ أو غيرها. ربما يعتبر بعضهم أن من الضروري إبراز ذاكرة الحرب، كي لا تتكرّر ثانية.

الخطأ الثالث مرتبط بمدى تمسّك اللبنانيين والفلسطينيين، بيمينهم ويسارهم، بنظرة تقليدية نمطية، كلٌّ إلى الآخر، ولا كأن عشرات ألوف اللبنانيين والفلسطينيين يعيشون مع بعضهم بعضا، سواء بالاختيار أو بالإكراه، لكنهم يعيشون. كما أن المخيمات الفلسطينية، خصوصاً الموجودة في بيروت، باتت تضمّ خليطاً من اللبنانيين والفلسطينيين والسوريين، في ترجمة لمعاناة الطبقة الفقيرة. وإضافة إلى ذلك كله، أجيال فلسطينية عدة وُلدت في لبنان، وربما لن يعود بعض منها إلى فلسطين، تماماً كما اللبناني الذي لجأ إلى قبرص في الحرب، ثم أوروبا، ولم يعد إلى لبنان.

يحتّم ذلك كله النظر بصورة أوسع إلى المشكلة، فالنظر بصورة ضيّقة أدخلنا في سياقات الحرب سابقاً. النظر بصورة أوسع، خصوصاً في العلاقات اللبنانية ــ الفلسطينية، يستلزم مقاربة الأمور بطريقة اجتماعية - اقتصادية، لا طائفية - سياسية. في الحالة الأولى، يمكن إيجاد الحلول بسهولة، وإشراك الفلسطيني في دورة العمل اللبنانية بسلاسة، ضمن حقوقٍ مدنية، لا سياسية، بديهية له. في الحالة الثانية، يمكن إفساح المجال للمتطرّفين على الجهتين لتأجيج الصراعات، والدفع باتجاه لحظة تشعل فتنة دموية ما. كما أن الصورة النمطية عن أن المخيمات الفلسطينية هي مجموعات مسلحة تروّع السكان، وتهدد السلم الأهلي، هي ما يريد كثيرون تأكيدها، بينما في الواقع أن غالبية القاطنين في المخيمات هم عائلات وأطفال وأفراد غير قادرين على مواجهة أي مسلّح، فيقبلون الأمر الواقع. يكفي أنه في كل حرب داخلية في المخيمات، تنزح عشرات العائلات إلى خارجها، للدلالة على البؤس الذي يعاني منه سكان المخيمات. في المقابل، أكبر خطيئة للقضية الفلسطينية اعتبارها "قضية إسلامية"، وهو ما يعني حكماً أن بعض من يؤيدها أو يعارضها ينطلق من هذه الخلفية، فيما هي قضية إنسانية فقط.

هنالك تخوف حقيقي على وضع الفلسطينيين في ظل تفشي البطالة بأرقام مرعبة، فقد أظهرت دراسة قامت بها الجامعة الأميركية في بيروت، بالتعاون مع وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (أونروا) تحت عنوان (الواقع الاجتماعي والاقتصادي للاجئين الفلسطينيين في لبنان) وشملت 32 مخيماً وتجمعاً فلسطينيا، وأجريت بين نهاية يوليو/ تموز وأوائل أغسطس/ آب 2010، تبين من خلالها أن في لبنان ما بين 260 ألفا إلى 280 ألف فلسطيني ما زالوا يقيمون في لبنان من بين عدد اللاجئين الإجمالي المسجل لدى "أونروا"، وهو 425 ألفا. تعيش نسبة 62% منهم في المخيمات، فيما يعاني ثلثا اللاجئين الفلسطينيين، أي 160 ألفا منهم، من الفقر، وتعاني نسبة 7,9% منهم من الفقر المدقع.

وإذا كانت الحجة هي تأمين فرص عمل للشباب اللبناني، فقد بينت الدراسة أن اللاجئين الفلسطينيين ينفقون حوالي 340 مليون دولار سنويا في البلاد، وهذه مساهمة كبيرة في الاقتصاد اللبناني، وخصوصا في المناطق النائية، حيث تتركز التجمعات والمخيمات الفلسطينية، فضلا عن مساهمات "أونروا" وما تنفقه المؤسسات الفلسطينية والفصائل والتحويلات المالية من الجاليات الفلسطينية في الخارج، وهذا يقدر بمزيد من ملايين الدولارات. كما بيّنت الدراسة أن المهن التي يشغلها الفلسطينيون تعتبر مكملة لتلك التي يمتهنها اللبنانيون، ما يعني بوضوح أن اللاجئ الفلسطيني لا يشكل أي خطر على فرص العمل اللبنانية، فماذا يجري؟ 

لقد مل الفلسطينيون من الوعود والمناشدات التي لم تتقدم بهم الى الأمام فيما يخص حقوق الإنسان الطبيعية، واستطاع الفلسطينيون أن يعضوا على الجرح، وأن يتكيفوا مع هذا الواقع المؤلم، فعملوا على هامش الاقتصاد اللبناني، واستفاد لبنان من عوائد هذا العمل، ليأتي هذا القرار ليزيد الجرح ألما، فالفلسطيني أصبح مهددا بالجوع، وانتهاك حقه بالصمود والحفاظ على هويته، فاتخذ الاعتراض الفلسطيني في ظل عدم وجود أي موقف رسمي يلغي قرار وزير العمل، بالرغم من مطالبة الفصائل والسفارة الفلسطينية ومؤسسات وشخصيات لبنانية سياسية وشعبية بوقف هذا القرار، فاتجهت الأمور نحو إغلاق مداخل المخيمات والتظاهر وحرق الإطارات، وسحب رؤوس الأموال الفلسطينية من البنوك، ومقاطعة بعض المصالح التجارية اللبنانية، أين العقلاء في هذا البلد من تدهور الأوضاع، وما هو مصير لقمة العيش بكرامة للفلسطيني؟

بيار عقيقي

 

من نفس القسم دولي