دولي

سراب "الدولتين".. أوروبا لا تصارح الفلسطينيين بالحقيقة

القلم الفلسطيني

ينبغي العمل على إقامة "دولة فلسطينية قابلة للحياة، ومتواصلة جغرافياً، تعيش في أمن وسلام إلى جانب إسرائيل". إنها المقولة التي تبنّتها "الرباعية" الدولية في العقد الأول من هذا القرن، بمقتضى "حلّ الدولتين". لكنّ الوعود انقشعت تدريجياً مع سلوك أوروبي يتحاشى المصارحة بالحقيقة.

ما جرى وقتها أن اللجنة "الرباعية" -التي تضم الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة- حاولت إنعاش وعود "عملية السلام" التي انطلقت في مدريد سنة 1991، ثم بلغت ذروتها في "اتفاق أوسلو" الذي تم إبرامه بعد سنتين (1993) مع ابتسامات عريضة ومصافحات دافئة برعاية أميركية.

تمخّضت عن "اتفاق أوسلو" سلطة حكم ذاتي ترفع العلم الفلسطيني كي تقوم بمهامها بصفة انتقالية إلى حين الوصول إلى "اتفاق نهائي" في أمد أقصاه سنوات خمس، أي سنة 1999. ظلّ الوضع الانتقالي قائماً ربع قرن كامل حتى اليوم، وما زالت أعلام فلسطين مرفوعة تحت الاحتلال العسكري والهيمنة الإسرائيلية المباشرة على تفاصيل الحياة اليومية.

أعادت "الرباعية" -عبر "خريطة الطريق" المفضية إلى "الدولتين"- إنتاج الوهم، فما زال الفلسطينيون عالقين في مصيدة "وضع انتقالي" مؤبّد بدون استقلال أو سيادة. وتفاقمت مظاهر الاحتلال وحقائق الاستيطان في شرق القدس وأرجاء الضفة منذ أن أطلقت "الرباعية" وعودها، بينما يشتدّ الحصار على قطاع غزة.

"أعادت "الرباعية" -عبر "خريطة الطريق" المفضية إلى "الدولتين"- إنتاج الوهم، فما زال الفلسطينيون عالقين في مصيدة "وضع انتقالي" مؤبّد بدون استقلال أو سيادة. وتفاقمت مظاهر الاحتلال وحقائق الاستيطان في شرق القدس وأرجاء الضفة منذ أن أطلقت "الرباعية" وعودها، بينما يشتدّ الحصار على قطاع غزة"

وتكفي نظرة سريعة إلى خرائط الاستيطان المستشري والطرق الالتفافية ومسارات الجدار، لتبديد مقولة "التواصل الجغرافي" اللازم لأراضي الدولة الفلسطينية المرتقبة. لا يتفوّه المجتمع الدولي اليوم بعبارة "الممرّ الآمِن" بين الضفة والقطاع؛ الذي كان في تسعينيات القرن الماضي ضرورة لدولة فلسطينية ستنهض بجناحيْن جغرافييْن متباعديْن.

ولا يحظى الفلسطينيون بمعابر مفتوحة على العالم أو باقتصاد مستقلّ قادر على الفكاك من الهيمنة الإسرائيلية المفروضة عليه، وسيبقى الاحتلال المرئي أو المستتر قادراً على سدّ شرايين أي دولة فلسطينية مرتقبة، بما يهوي بوعد "قابلة للحياة".

حاول المجتمع الدولي أن يستثير شغف الشعب الفلسطيني بوعد "الدولتين" لتلميع لافتة "عملية السلام" الصدئة، مع منح الانطباع الزائف بأنّ قيام الدولة الموعودة وشيك حقاً. وأظهر الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن حماسته لها؛ لكنه سارع إلى منح حزمة سخيّة من "الضمانات" لرئيس حكومة الاحتلال وقتها أرييل شارون، مما يعني أنّ "خريطة الطريق" في ذروتها كانت مشروطة إسرائيلياً على حساب فلسطين الموعودة.

من بين الأطراف الدولية؛ تبدو أوروبا في حرج بالغ وإن احتفظت بشعاراتها وتصريحاتها المعتادة، فهي التي أظهرت حماسة فائقة لـ"عملية السلام" منذ البدء، وسدّدت حصة أوفر من التمويل اللازم، وحافظت على وعد "الدولتين عبر المفاوضات" بلا تلكُّؤ، لكنها تركت "رعاية المفاوضات" لأهواء الإدارات الأميركية.

استأثرت واشنطن بتحديد الوجهة، وتكفّلت أوروبا بالحصة الأوفر من السداد المالي. ومنذ أن صاغت "الرباعية" ما سمّتها "خريطة الطريق" المفضية إلى ما سُمِّي "حل الدولتين"؛ التزمت القارّة الموحّدة وعواصمها بالمقولة البرّاقة التي تمنح الانطباع الزائف بأنّ دولة فلسطينية تبزغ بوميضها في نهاية النفق المظلم، وهو انطباع يختلط فيه الوهم الإستراتيجي بالإيهام الدعائي.

تصاعدت التحذيرات مما يجري على الأرض، وأخذ الدبلوماسيون الأوروبيون يبعثون بتقارير من الميدان باعثة على قلق متعاظم -سنة بعد سنة- من المنحى المتسارع في فرض الأمر الواقع الاحتلالي على أراضي الدولة الفلسطينية المرتقبة؛ أي ضمن حدود الرابع من يونيو/حزيران 1967 بما فيها شرق القدس.

هذا ما كان في عهد الرئيس بوش الابن، ومن بعده باراك أوباما؛ لكنّ دخول دونالد ترامب البيت الأبيض أهال التراب بشكل حاسم على مشروع "الدولتين" -بالمواصفات التي حدّدتها "الرباعية"- بسطوة انفرادية لا تعبأ بالشركاء الأوروبيين أو حتى بالقانون الدولي.

يدرك قادة أوروبا أنّ حكومات الاحتلال المتعاقبة لم تكن معنية أساساً بقيام دولة فلسطينية؛ حتى ولو جاءت دويلة ضعيفة وممزقة الأوصال ومنزوعة السلاح، وأنّ مصطلح "الشعب الفلسطيني" لم يصدر تقريباً عن أي مسؤول إسرائيلي حتى اليوم.

فالكلمة العليا بقيت للآليّات العسكرية والغارات وأعمال القتل والتدمير والاعتقالات، والجرافات ونصب الحواجز، وفرض السيطرة الشاملة وإحكام الخناق على التجمعات السكانية الفلسطينية، وتحميل أعباء أمنية على عاتق أجهزة السلطة في خدمة الاحتلال. وتم في زمن "السلام" الدفع بمزيد من المستوطنين المسلّحين إلى "أراضي الدولة الفلسطينية" المفترضة، حتى تضخّم عددهم بنحو أربعة أضعاف منذ توقيع اتفاق أوسلو.

تقف القضية الفلسطينية مكشوفة في وجه حملة التصفية التي تقودها إدارة ترامب، بينما يتمسّك الخطاب الأوروبي الرسمي بسراب دولة فلسطينية ستأتي يوماً ما عبر التفاوض مع حكومات إسرائيلية تزداد تعنّتاً، رغم البلاغات الأوروبية المتزايدة عن سلوك الاحتلال في أرض "الدولة" الموعودة؛ التي تتمزّق أوصالها ويتقوّض مستقبلها يوماً بعد يوم.

حسام شاكر

 

من نفس القسم دولي