دولي

قدوة الفلسطينيين فلسطينهم

القلم الفلسطيني

مرّ زمانٌ شكلت الوطنية الفلسطينية، بصورتها الكفاحية، وسردياتها المشوقة التي تليت على مسامعنا في مراحل الطفولة، وفي سن البلوغ وأيام الصبا والشباب، أيقونةً آثرنا الاعتزاز والافتخار بها، وحملناها على مر السنين، بأمل أن يتحقق حلم عودتنا إلى أرض الوطن، من دون أن يداخلنا الخوف والخشية على إرث الآباء والأجداد، إلى أن وصلنا إلى زمنٍ يوصف بأنه "أرذل العمر"، لنشهد ذاك الضياع والتفلت والانحطاط لدى بعض من بقوا في مقدمة المشهد السياسي، مُؤثرين مصالحهم الأنانية الضيقة على حساب تطلعات شعبهم ومصالحه وقضيته الوطنية، حيث أصبح النزوع السلطوي البطريركي سيد الاستبداد المقيم، وعنصر التغوّل الرئيس في سلوك فئوياتٍ منفلتة، داخل المكون الفصائلي أو الحزبي الواحد، كما لدى فصائل عديدة تحولت، بفئوياتها وعلاقاتها الزبائنية، إلى مجرد منظومات وهياكل مفرغة، تعمل على الضد من أهداف الوطنية ومعانيها التي ينبغي أن تتحلى بها، كونها انطلقت وتأسست ككيانات وطنية، يجمعها إطار وطني واحد موحد، إلى أن أصابتها متلازمات الشقاق والانشقاق، والانقسام والتباعد والانفصام، والانفصال عن الواقع الكفاحي لعموم الشعب الفلسطيني في كل أماكن وجوده؛ ما عدا ساحات الوجود السلطوية التي جادت بها اتفاقات أوسلو، وما اقتضته من تسييج الحالة الوطنية في الضفة الغربية واعتقالها، كما التي سارت على دربها في قطاع غزة. 

لم يعد شعار كثيرين منا "قدوتنا فلسطيننا"، خصوصا لدى قوى عديدة أوقعت نفسها في براثن نزعات وزعامات أبوية الإقطاع السياسي والمالي، والتي ارتضت أن تشكل الغطاء اللازم لكل الخطوات التي أخرجت الحال الوطني الفلسطيني من الملاذات الشعبية الآمنة للكفاح التحرّري، إلى ملاذاتٍ غير آمنة، من تنسيق أمني وغير أمني مع الاحتلال؛ والتنمّر على قرارات المؤسسات الوطنية، وتجاهلها وكأن لم تكن؛ وإلا.. كيف يمكننا أن نقرأ واقع الحال الفلسطيني الراهن، في أبرز تجلياته التراجعية ومواته، في ظل مواقف عدمية لم تعد تنتج سوى الإيغال في ثبات انتظار ما قد تأتي به صفعة العصر الترامبية، والتي استطاعت تطويع وتطويح مواقف إقليمية عديدة، بسماتها واندفاعاتها التواطؤية والتطبيعية مع صاحب الصفعة، ومع كيان احتلال  كولونيالي أضحى محميّا ومدعوما إقليميا ودوليا.

فلسطين هنا ليست تلك الإمارة التي يحلم بها أمراء الخلافة من أصحاب "القدوة المتمكنين"، ولا دويلة رام الله وتوابعها من قرى وروابط قرى وحكم ذاتي محدود و"مهدود الحيل"، بفعل استمرار الاستيطان وسيادة الاحتلال على كامل فلسطين التاريخية، ويراد لنا أن نكون تبعا لـ"قدوة أبوية" يُراد لشخصه أن يحكم تلك المساحة الصغيرة من فلسطين تسمى "دولة فلسطين"، وما هي دولة ولا حتى دويلة، إلا إذا كان بعضنا السلطوي قد قنع نهائيا بأن ليس للفلسطينيين من وطن سوى تلك الحيازات الصغرى التي استبقاها الاستيطان مؤقتا، على أمل ابتلاعها لاحقا، كما أقنع هذا بعضهم بأن المساحة الكبرى من فلسطين التاريخية هي "أرض الميعاد" و"الحق التوراتي" لأغيار لفقوا ولفق معهم العالم، تلك الرواية الزائفة عن "إسرائيل" التي كانت هنا يوما، وها هو شعبها قد عاد إليها بعد طول غياب.

هذا ليس صحيحا، وليس من التاريخ على الإطلاق، واسألوا من "آمن" بالتاريخ يوما، ولكنه "شلحه" خلفه، وهو يدخل محراب السلطة، وبدلا من أن يواجه الفلسطينيون مهامهم الكفاحية موحدين، وفق برنامج سياسي جبهوي، تجمع عليه كل القوى والفصائل، وجمهور الشعب كله، وجد النهج السلطوي والأبوي الذي تمكّن من الهيمنة والسيادة على واقع الحال الفلسطيني فرصته في الانقضاض على الوحدة الهشّة التي كانت سائدة يوما، فقلبت لها بعض القوى ظهر المجن، فاستراحت على بساط سلطةٍ فئويةٍ أضحت تناكف مواقع سلطوية أخرى، لينتهي بنا الحال إلى ما نراه اليوم من وجود أكثر من سلطة، يقف على رأس كل واحدةٍ منها إما استبداد فردي مقيم، يجاري أمثاله من استبدادات تتنافس فيما بينها للبقاء أطول فترة ممكنة في "خدمتها" نزعاتها الديكتاتورية الشمولية، أو استبداد حزبي وفئوي ذو طابع مليشياوي ممانع، لا يقيم وزنا لما يجري حوله من محاولات تطبيق صفقة عصر الاستسلام والتصفية، القادمة ولا دويلة رام الله وتوابعها"  على طبق من رؤى نتنياهو وتطبيقات ترامب لها مع مبعوثيه الثلاثة (كوشنر وغرينبلات وفريدمان)؛ فيما سلطاتنا المحلية المحكومة، غير الحاكمة، تتلهى كل واحدة منها بما يصلّب من عنجهيتها واستكبارها واستعلائها، وعدم التفاتها إلى ما ينبغي أن تقوم به من مهام مواجهة صفعات نتنياهو - ترامب، إذا كانت هذه السلطات ترفض حقيقة، وتقاوم جديا؛ منطوق الصفقة وأغراضها التصفوية.

الشعب الفلسطيني اليوم أكثر احتياجا لكل جرعة من الديمقراطية والحريات وحقوق التعبير الفردية والجماعية، فكما كانت "ديمقراطية غابة البنادق" قد حافظت على نوع من الوحدة الكفاحية، ولو نسبيا، فإن ديكتاتورية غابة السلطات واستبدادها هما ما أمدّا الوضع الفلسطيني المخرّب بمزيد من الشرذمة والفرقة والانقسام، وربما في الغد بمزيدٍ من مبررات انفصال بين مجتمعات وتجمعات وجماعات وطن واحد كان يسمى فلسطين، وسيبقى اسمه فلسطين.

.. ليس هذا بالتأكيد ما تحلم به الأجيال الفلسطينية، فالقدوة التي نحلم بها جميعنا هي أن تكون  قدوتنا فلسطين، وفلسطين التاريخية لا أكثر ولا أقل، ليس رغما عما يريده الأعداء، بل ورغما عما يريده "قدواتٌ" ليسوا كذلك، إلا لدى من يتعامون عن واقع الفلسطينيين المزري اليوم، بفعل قياداتٍ لا تقود، وقدواتٍ مقادين أصلا وفرعا. وخرابٍ يجري تزيينه على هيئة انتصارات دبلوماسية تفتقد العنصر الذاتي الفاعل، القادر على حمايتها والذود عنها أو استثمارها وتوظيفها في فعل كفاحي يستمر ويتواصل، على قاعدة برنامج التحرّر الوطني، وأهداف المشروع الذي انطلق بفعل إسهامات جماهيرية وتنظيمية خلاقة، ولم يكن في بال أحد من مناضليه أن يجري التضحية به على مذبح قوى سلطويةٍ انهارت دفاعاتها، بفعل عقلية الاستئثار والهيمنة، واستغلالها عديد الأساليب والطرق الكفيلة بجعلها تحتفظ بمواقع لها بدون مساءلة، وبمصالح ذاتية أو فئوية، جرى ويجري توظيفها في مواجهاتٍ انقلابية، صارت السلطة خلالها "الطوطم المقدّس"، بينما فلسطين التاريخية التي عرفها الآباء والأجداد أضحت للأسف بمثابة "مساهمة أضحوية" لدى بعض الرسميين وغير الرسميين العرب، كما وبعض الفلسطينيين، بغرض أن يبقى السلطويون أسياد استبداد مقيم، بمعاونة تبّع وأتباع من اعتبروا ويعتبرون "قدوتهم السلطة".

ماجد الشيخ

من نفس القسم دولي