دولي

ولا تزال النكبات تتوالى

واحد وسبعون عاماً والنكبة الفلسطينية تكبر وتتعاظم، وفصولها تتواصل وتنتشر، لكن صمود وتحدي الشعب الفلسطيني لم ينكسر ولم ينحنِ، بل الإصرار على الحرية والاستقلال واسترجاع الحقوق المغتصبة والعودة إلى الوطن، يتجسد ويزداد وينتقل من جيل إلى جيل، وتستمر المسيرة بكل ما يرافقها من معيقات وعثرات ومؤامرات.

خلال العقود السبعة الماضية التي تشكل عمر النكبة الفلسطينية، تضاعف عدد أبناء الشعب الفلسطيني تسع مرات، وتجاوز ثلاثة عشر مليون نسمة نصفهم في الداخل والنصف الثاني في الخارج، ولم يتوقف النضال الفلسطيني من أجل إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف وعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم.

في العامين 1947 و48 ارتكبت عصابات الإجرام الصهيوني أكثر من سبعين مجزرة في مدن وقرى فلسطين التاريخية، وقتلت أكثر من خمسة عشر ألف شهيد فلسطيني، وشردت أكثر من ثمانمائة ألف فلسطيني داخل فلسطين وخارجها، وأزالت مئات القرى والتجمعات الفلسطينية عن الوجود، والآن تغتصب «إسرائيل» أكثر من 85% من مساحة فلسطين التاريخية البالغة 27 ألف كيلومتر مربع، ويعيش فيها قرابة سبعة ملايين محتل صهيوني.

المشروع الصهيوني لم يكتمل بعد في فلسطين التاريخية، لأن المخطط لهذا المشروع الاحتلالي الاحلالي يستهدف الاستيلاء على كامل مساحة فلسطين، وإقامة الدولة اليهودية أحادية القومية، وترحيل جميع أبناء الشعب الفلسطيني من أرضهم وممتلكاتهم، وتتفرع الحرب الإسرائيلية الشاملة حاليًّا على الشعب الفلسطيني في ثلاثة اتجاهات، الجغرافي والديمغرافي والمالي -الاقتصادي، والهدف واحد هو اقتلاع الشعب الفلسطيني من أرضه، فقد تواصلت عملية اغتصاب الأراضي الفلسطينية في جميع أنحاء فلسطين المحتلة، مع التركيز على القدس المحتلة، ولم يتبق في أيدي الفلسطينيين إلا كانتونات ضيقة جدًّا من المساحات تحيط بها المستوطنات الصهيونية والجدران العنصرية من جميع الاتجاهات، وفي الحرب الديمغرافية التي تشكل محرك الرعب الحقيقي للاحتلال الصهيوني، استطاع الاحتلال أن يزرع في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 أكثر من سبعمائة ألف مستوطن صهيوني، وما تزال الهجمة الاستيطانية مستمرة وبشراسة غير معهودة وغير مسبوقة، للاستيلاء على المزيد من الأراضي الفلسطينية، وزرع المستوطنين فيها، كل هذا يترافق مع الحصار المالي والاقتصادي الذي تفرضه سلطات الاحتلال الصهيوني والإدارة الأمريكية المتصهينة على الشعب الفلسطيني، بهدف إنجاز المشروع الصهيوني في فلسطين من النهر إلى البحر، ومن ثم التمدد من النيل إلى الفرات وفقاً لاستراتيجيتهم السياسية والتوراتية التلمودية.

الشعب الفلسطيني على موعد مع نكبة جديدة خلال الأشهر الثلاثة القادمة، تحت مسمى صفقة القرن، وقد بدأ تنفيذ تلك النكبة منذ العام الماضي، لكن ما ستحمله الأشهر الثلاثة المقبلة هو استنكمال فصول النكبة الجديدة، التي تستهدف تصفية القضية الفلسطينية بالكامل، بالتعاون والتنسيق المباشر والدائم بين الاحتلال الصهيوني والإدارة الأمريكية المتصهينة برئاسة ترمب، وتواطؤ البعض.

وعلى مدى 71 عاماً الماضية، اعتاد الفلسطينيون، في كل عام، أن يحيوا ذكرى نكبتهم بالعديد من الفعاليات النضالية المختلفة؛ منها التظاهرات والاعتصامات والمهرجانات السياسية، وفي بعض المراحل بالعمليات العسكرية؛ ولكنهم في هذا العام يحيونها على نحو أكثر تعقيداً؛ بعد أن ولّدت النكبة سلسلة من النكبات، ودفعت الفلسطينيين إلى الاستعداد لمواجهة «أم النكبات» القادمة من واشنطن؛ عبر خطة التسوية الأمريكية.

لن نكرر الحديث عن شواهد النكبة، وسياقها التاريخي، ومحو مئات القرى والبلدات الفلسطينية عن وجه الأرض، والمجازر الجماعية التي ارتكبتها عصابات «الهاغاناة وشتيرن وايتسل» بحق الفلسطينيين، وتهجير مئات الآلاف منهم آنذاك؛ ليتحولوا اليوم إلى ملايين اللاجئين المُشتتين في بقاع الأرض؛ لأن ما ينتظر القضية الفلسطينية على يد إدارة ترمب قد يجعل كل ما شهدته في المراحل السابقة مجرد مقدمات للنكبة الكبرى أو «أم النكبات»؛ الهادفة إلى تصفية القضية تصفية نهائية وبالضربة القاضية.

فعلى مدار ثلاث سنوات تقريباً، تتواصل تسريبات خطة التسوية الأمريكية في اتجاهات مختلفة، وعلى نحو متعمد من دون تبني ذلك رسمياً؛ لجس نبض الفلسطينيين والعرب بشأن بعض بنودها الخلافية أو التي تبدو غير محتملة؛ لكن ومع اقتراب طرح هذه الخطة بعد شهر رمضان، كما هو معلن، فإن التسريبات بدأت تزداد ضراوة، وبدأت تؤشر إلى أن الكثير منها هو جزء حقيقي من الخطة الأمريكية، والتي في مجملها، على أية حال، تتجاهل كل حقوق الشعب الفلسطيني في أرضه ووطنه، وتحوله ليس إلى لاجئين، وإنما إلى جاليات في الدول التي يقيمون فيها، وتحسم كل القضايا الأساسية، القدس والأماكن المقدسة والحدود والمياه وغيرها لمصلحة «إسرائيل»، ويتبخر فيها «حل الدولتين»، وتتم تصفية قضية اللاجئين، وإنهاء عمل المؤسسات الدولية المرتبطة بهم، وفي المقدمة منها «الأونروا» التي أُنشئت خصيصاً؛ للإشراف على هذه القضية وإدارتها، ولتظل الشاهد الحي الوحيد على مأساة الفلسطينيين.

باختصار وبحسب هذه التسريبات، ليس هناك أي شيء للفلسطينيين، مقابل كل شيء لـ«إسرائيل»، وبالتالي لا خيار أمام الفلسطينيين سوى رفض هذه الخطة حتى قبل طرحها رسمياً، فالمكتوب يقرأ من عنوانه، كما يقولون، بغض النظر عما سيترتب على ذلك من ضغوط وقمع، وربما اغتيالات، وتشديد الخناق على حرية تنقل وحركة الفلسطينيين في الداخل والخارج؛ لكن ذلك قد يكون سلاحاً ذا حدين؛ إذ من المؤكد أن الفلسطينيين أصحاب الخبرة والباع الطويل في مقارعة الاستعمار والاحتلال على مدار أكثر من قرن لن يستسلموا بهذه البساطة؛ بل إن استفزازهم على هذا النحو؛ سيسهم في تفجير براكين الغضب الفلسطيني، ويعيد إطلاق مرحلة جديدة من المقاومة ستكون أكثر شراسة، ولا أحد يمكنه التكهن بنتائجها أو انعكاساتها في المنطقة.

كمال زكارنة

 

من نفس القسم دولي