دولي
كل هذا التحشيد لصفقة القرن!
القلم الفلسطيني
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 29 أفريل 2019
من الواضح تماماً أن الإدارة الأميركية برئيسها والمسؤولين الثلاث عن إخراج صفقة القرن وتطبيقها: المتصهينين، جاريد كوشنر صهر الرئيس، جيسون جرينبلات المبعوث الأميركي إلى المنطقة، والسفير الأميركي في دولة الكيان الصهيوني ديفيد فريدمان، فهؤلاء يحاولون مطمطة الحديث عن "صفقة القرن" لأطول مدّة ممكنة، كما التحشيد الإعلامي حولها! من خلال: تأجيل إعلانها الرسمي مرات متعددة، كما حصل فعلاً، ويسرّبون في ذات الوقت مضمونها، لإشغال المعنيين والأمة العربية والعالم بها، بهدف خلق وتحضير الأجواء لتطبيقها! غير عابئين تماماً بأنها نقل حرفي ببغائي للأمر الواقع الإسرائيلي جملةً وتفصيلاً، مقابل وعود اقتصادية للفلسطينين. ذلك لمزيد من استمرار إشغال المنطقة بها، محاولين تطبيق مضمون قاعدة إعلامية: أن خلق زخم إعلامي حول حدث معيّن هو وسيلة التمهيد الأساسية لصيرورته واقعا. لكنهم خسئوا، فلو أبقوا تحشيدهم الإعلامي حولها لسنوات طويلة أخرى، فسيتراكم رفض جماهيرنا الفلسطينية لها، كما أبناء أمتنا العربية، رغم ظهور أصوات ناشزة، عبر استكتاب بعضهم من المأجورين، ممن تجرّأوا على تزييف الحقائق التاريخية، الذين يرددون الأضاليل والأباطيل والأساطير الصهيونية: بأن "ليس هناك شعبا فلسطينياً"، "لم تكن هناك دولة فلسطينية على مدار التاريخ"، "لإسرائيل الحق في فلسطين"، وغيرها من الترّهات!
الهدف الثاني الواضح تماماً لإطالة الوقت للإعلان رسميا عن "صفعة القرن" (وفقاً لما وصفها الرئيس عباس) هو: أن الثلاثي المعني يدرك تماماً أن الاشتراطات الإسرائيلية للتسوية تتعاظم تماماً، فوفقاً لما قاله (موقع عرب 48، ومواقع إعلامية كثيرة، وصحف عربية عديدة، من بينها "الوطن" العزيزة) فإن اشتراطات أحزاب اليمين الصهيوني الأكثر تطرّفاً، وهي تجمع لمجموعة من غلاة المتطرفين أتباع الصهيونية الدينية والأخرى السياسية وغيرهما، يشترطون على نتنياهو للمشاركة في ائتلافه الحكومي ما يلي: أن لا يتم مطلق انسحاب من "أرض إسرائيل"، ضمّ "يهودا والسامرة"- الضفة الغربية ل"إسرائيل"، رفض إعطاء الفلسطينيين أيّ حق ولو كان "حكماً ذاتياً"! وعلى هذا الصعيد قال الكاتب يحئييل شابي في صحيفة "يسرائيل هيوم" 24 نيسان/أبريل الحالي في مقاله بعنوان "إسرائيل أقنعت إدارة ترامب"، قال: "على الفلسطينيين أن يعرفوا، بأن وقوفهم ضد خطة ترامب، سيحرمهم حتى من الحكم الذاتي". أما يوسي بيلين فيقول في مقالته بعنوان "صفقة القرن الحل الذي لم يجرّب بعد" في ذات الصحيفة بتاريخ 25 أبريل/نيسان الحالي: "إن الأميركيين يواصلون الليل بالنهار كي يجدوا كلمات جديدة في القاموس: أوتونوميا بتفسير إسرائيلي مضمونه، مسح وجود الحكم الذاتي، من خلال إعطاء إمكانية حرّة للجيش الإسرائيلي للدخول إلى منازل الأوتونوميا، واعتقال المشبوهين، إلى جانب ضمان وجود هذا الجيش في كافة المناطق".
تطيل الإدارة الأميركية الإعلان عن "صفقة القرن" بمحاولة الضغط على السلطة الفلسطينية من خلال الباب الاقتصادي المالي، لذا رأينا سلسلة القرارات الأميركية بمحاصرة السلطة مالياً، كما الهيئات الدولية المسؤولة عن اللاجئين، كالأونروا، واليونسكو، التي تعترف بعروبة القدس رغم الضغط الأميركي عليها من خلال امتناع واشنطن من دفع حصتها المالية لها منذ سنوات! ليس هذا فحسب، بل من خلال إقناع دول عديدة في العالم بعدم دفع المبالغ المقررة عليها منذ اتفاقيات أوسلو المشؤومة، للسلطة. وبالفعل فإن الأخيرة أصبحت تعاني عجزاً مالياً حاداً، وهو ما جعلها تدفع 50% من رواتب موظفيها للشهر الثالث على التوالي. ولقد تحدثت عن هذه الأزمة الاقتصادية للسلطة العديد من الصحف الإسرائيلية، ومنها مثلاً الكاتبة المعروفة عميرة هاس، وعاموس هارئيل في صحيفة "هآرتس" بتاريخ 25 نيسان/أبريل الحالي، فكتب الثاني مقالته تحت عنوان "الأزمة الاقتصادية في السلطة يمكن أن تكون لغماً شديداً لنتنياهو".
المضحك المبكي في الإدارة الأميركية، أنها تعد الفلسطينيين ببحبوحة اقتصادية معيشية إن هم نفذّوا صفقة "لعنة القرن"! لكنها في ذات الوقت تريد خنقهم استجابة لرغبات صهيونية، الأمر الذي يفرّغ الوعود الأميركية الاقتصادية من مضامينها! يذكر كاتب هذه السطور الوعود التي رافقت مرحلة ما قبل توقيع اتفاقيات أوسلو الكارثية مثل أنه: بعد خمس سنوات من توقيعها سيكون هناك دولة فلسطينية مستقلة، وسيكون الفلسطينيون أحراراً في الدخول والخروج من الدولة العتيدة، كما سيتلقى الفلسطينيون مساعدات مالية كبيرة ولعقود طويلة، حتى يرتقوا بدولتهم لتكون دولة كبيرة وغنيّة، وبرغم تحذير كثيرين من التوقيع على هذه الاتفاقيات الخادعة والوعود الاقتصادية الجوفاء والرعناء الخالية من أي التزامات فعلية، وقّع المسؤولون عن المنظمة الاتفاقيات! والآن يعرف قارئنا الفلسطيني والعربي ما الذي أسفرت عنه الاتفاقيات والحال الذي آلت إليه، لأننا نعيش واقعه. اليوم التاريخ يكرر نفسه ولكن على شكل مأساة ومهزلة معاً (في تحوير بسيط للمقولة الفلسفية المعروفة) من خلال "صفقة القرن" التي هي أشدّ لعنة من اتفاقيات أوسلو.
مواجهة صفقة القرن تحتاج لأقوال وليس لأفعال، بل خطوات فلسطينية فعلية لمواجهتها ووضع العربة في هذا الملف على السكة الفعلية، وترجمة البيانات والمواقف لحقائق، لخطورة الصفقة التي تعمل على تغييب الوعي الفلسطيني والعربي تجاه القضايا الوطنية وتحويلها إلى مجرد قضايا هامشية في سياق الأحداث، كما تحاول الولايات المتحدة أن تفعل ذلك.
أخطر ما تحاول تمريره صفقة القرن هو كي الوعي الفلسطيني والعربي تجاه الاحتلال ليبدو أننا تجاوزنا فكرة الصراع الفعلي مع الاحتلال المرتبط باحتلال فلسطين التاريخية عام 1948، وما ترتب على ذلك من تهجير لملايين الفلسطينيين من أراضيهم واحتلال الأراضي وتهجيرهم من ديارهم، وما تبع ذلك من أحداث، اعتقادًا من الاحتلال أن الكبار يموتون والصغار ينسون.
تقوم فكرة صفقة القرن على دمج الاحتلال في المنطقة، وهو ما سعت له الولايات المتحدة، لكن من خلال عدة أساليب بينها ما تعرف بمسيرة التسوية التي تقوم بالاعتراف بالاحتلال كجزء من المنطقة، وهو ما حدث فعلًا من خلال اعتراف منظمة التحرير بالاحتلال على 78% من فلسطين التاريخية، والتفاوض على الباقي، على مدار 27 عامًا، واليوم تأتي صفقة القرن بنفس المفهوم والفكرة لكن بشكل أكثر وضوحًا بحيث يتم إنهاء قضية القدس واللاجئين وضم الضفة الغربية، وفصلها عن قطاع غزة.
الدعوة المتواصلة من الفصائل والرموز الوطنية لمواجهة صفقة القرن تحتاج أن تتحول إلى برنامج وطني شامل قائم على خطوات فعلية لفضح خطورة صفقة القرن، ووضع برنامج وطني كذلك لمواجهتها بالأفعال وليس بالأقوال، وهو ما من شأنه أن يعيد للقضية الوطنية حضورها وأهميتها وصدارتها للقضايا الوطنية والإقليمية والدولية.
فايز رشيد