دولي
استهداف مشروع المقاومة في قطاع غزة
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 20 أفريل 2019
يبدو أن المسار العامّ لأداء وسلوك عديد اللاعبين الكبار المؤثرين في الشأن الفلسطيني، يتجه نحو مزيد من تضييق الخناق على قوى المقاومة (خصوصاً حماس) بقصد تطويعها أو إزاحتها عن القيادة الفعلية لقطاع غزة.
ويظهر أن هذه القوى ما زالت تفضِّل إسقاط "حماس" بطرق الضغط "الناعمة" المختلفة … دون استبعاد الخيار العسكري كخيار ضرورة، بدأت تزداد حظوظه بعد الانتخابات الإسرائيلية، مع تزايد حالة اليأس من إسقاط المقاومة بالوسائل الأخرى، وهو ما يشير إليه الشرط المسبق الذي وضعه وزير الحرب الإسرائيلي السابق أفيغدور ليبرمان أمام نتنياهو للانضمام لحكومته المقبلة ويقتضي إنهاء الهدنة مع حماس والقضاء عليها.
وعلى الرغم من أن القطاع صمد طوال 12 عاماً في وجه الحصار الخانق، فإن هذا الحصار زادت قسوته قبل عامين (ربيع 2017) مع وصول إغلاق المعابر إلى مستوى غير مسبوق، وإضافة مجموعة العقوبات التي فرضتها قيادة السلطة في رام الله، وكذلك مع التسريبات المرتبطة بـ"صفقة القرن"، وعمل ترتيبات خاصة بغزة ضمن هذه الصفقة، في النصف الثاني من 2017.
وأيّاً تكن صحة بعض التسريبات التي تحدثت عن توسيع القطاع على حساب مصر، وتوطين أعداد كبيرة من لاجئي القطاع في سيناء، فإن خَطّ المقاومة في القطاع، الذي لا يرفض فقط "صفقة القرن"، وإنما يرفض مسار التسوية السلمية بكامله، ظلَّ يشكِّل عقبة كأْداء في وجه أي ترتيبات مرتبطة بهذه الصفقة، أو حتى بتسوية سلمية، توافق عليها السلطة في رام الله أو الدول العربية.
ومع اشتداد الخناق على قطاع غزة في أوائل سنة 2018، نظمت قوى المقاومة والقوى الشعبية الفلسطينية نشاطا إبداعيا هو "مسيرات العودة الكبرى"، التي على الرغم من أثمانها المرتفعة، أدت إلى توجيه الغضب الشعبي لجماهير القطاع ضدّ الاحتلال الإسرائيلي (لا ضدّ المقاومة كما يخطط محاصرو القطاع)، وإلى تفاعل عربي وإسلامي واسع، وهو ما أربك المحاصِرين وجعل "المُطبِّعين" في موقف محرجٍ أو متردد أمام جماهيرهم، فخفّفوا اندفاعتهم.
كما أن الطرف الإسرائيلي الذي واجه مسيرات قوية متصاعدة خصوصاً في أشهرها الأولى وخشي احتمالات دخول اللاجئين بأعداد كبيرة إلى فلسطين المحتلة 1948، مال ولو مؤقتاً إلى فصل الجانب الإنساني عن السياسي، فوافق على إجراءات لتخفيف بعض قيود الحصار، ثم إن الطرف المصري من جهته فتح المعابر بالاتجاهين لحركة الأفراد والبضائع. أما الطرف الأمريكي فلم يجد ظرفاً مواتياً لطرح صفقته، فأخذ يؤجلها مرة تلو مرة.
وعلى الرغم من أن مسيرات العودة أسهمت في تخفيف الحصار، فإن استهداف المقاومة ظلَّ قائماً. ويبدو أن هذا الاستهداف بدأ يسترجع قدرته على المبادرة في الأشهر الماضية، غير أنه ظلَّ يعالج معادلة صعبة، في ظلِّ حالة "التدافع" مع قوى المقاومة، التي كانت تتعامل بصبر وحكمة مع هذا المشهد المعقَّد.
في الشهرين الماضيين رفع الجانب الإسرائيلي وتيرة تهديداته للمقاومة في القطاع، وأرسل تعزيزات عسكرية كبيرة على حدوده، وتزايدت التصريحات السياسية والعسكرية والأمنية الإسرائيلية بضرورة اجتياح القطاع وإنهاء "حكم حماس"، الذي لم يعُد محتمَلاً وَفْق تعبيراتهم.
غير أن التصعيد الإسرائيلي ظلّ محسوباً، وسعى لتجنب الدخول في الحرب، خصوصاً قبل الانتخابات الإسرائيلية، باعتبار ذلك مغامرة غير مضمونة النتائج. غير أن الحديث عن هجوم عسكري شامل على القطاع ظلَّ قائماً، وهو حديث ما زال يشوبه التردُّد بسبب ارتفاع تكاليفه البشرية والمادية، كما أنه لا يوجد طرف عربي مستعدّ لتسلُّم قطاع غزة بعد احتلاله، وفق ما صرَّح به نتنياهو نفسه، في الوقت الذي لا توجد فيه لدى الطرف الصهيوني الرغبة في العودة لإدارته.
الطرف الأمريكي عاد لتفعيل رؤيته لإغلاق الملف الفلسطيني، ولإيجاد بيئات مناسبة لخطته المسماة "صفقة القرن"، فتابع تصعيد الحصار الخانق على قوى المقاومة، وعلى تجفيف مصادرها المالية كافة، وعلى معاقبة أي جهات داعمة لها، كما تابع ضغوطه على البلاد العربية والإسلامية لتقبل بإملاءاته فيما يتعلق بالشأن الفلسطيني.
من جهة أخرى، فإن بعض الدول العربية أخذت تستعيد نشاطها التطبيعي مع الكيان الصهيوني، واستمرت في حملتها الإعلامية ضدّ خط المقاومة، خصوصاً تيارات "الإسلام السياسي". وتابعت بعض الأنظمة نشاطها الاستخباري والأمني ضدّ خطّ المقاومة، وضدّ من يموّلها أو يجمع التبرعات لها. وهكذا تتجمع المؤشرات بتصاعد الضغط على قطاع غزة لإسقاط مقاومته، خصوصاً بعد أن ينقشع غبار الانتخابات الإسرائيلية وتتشكل الحكومة الجديدة.
ولعلّ شكل التصعيد القادم يأخذ شكل افتعال أحداث (أو استغلال أحداث) للقيام بإجراءات باتجاه إغلاق المعابر مرة أخرى، مع توجيه ضربات عسكرية إسرائيلية محددة "ونوعية"، وربما محاولة اغتيال رموز قيادية للمقاومة، مع وقف حكومة رام الله أشكال التمويل المالي كافة للقطاع، للوصول إلى انهيار اقتصادي فعلي في القطاع.
وقد يترافق معه تفعيل احتجاجات شعبية داخلية، بهدف إجبار حماس على تسليم السلطة بشكل كامل لحكومة رام الله. وربما قدمت سلطة رام الله لذلك "لبوساً" وطنياً تحت شعار تحقيق وحدة أراضي السلطة، والحكومة الواحدة والسلاح الواحد، وحتى الادعاء بـ"منع إنفاذ صفقة القرن"، بغضّ النظر إن كانت حكومة رام الله تطبق معايير أوسلو والتسوية السلمية واشتراطات التنسيق الأمني الإسرائيلي على القطاع.
أما إن لم ينفع هذا الحصار والتصعيد، فمن المحتمَل أن يوضع خيار التدخل العسكري الواسع على الطاولة، مصحوباً بمحاولات لإحداث فوضى وانهيار في الوضع الداخلي للقطاع.
من جهة أخرى، تدرك مختلف القوى المشاركة في الحصار مدى هشاشة وضعها أيضاً، فالطرف الإسرائيلي يدرك القوة العسكرية للمقاومة والأثمان الباهظة التي سيدفعها في أي مواجهة عسكرية قادمة، قد تتسبب في إسقاط حكومته.
وقيادة السلطة تدرك رفض الشعب الفلسطيني للعقوبات التي تفرضها، ورفضه نزع سلاح المقاومة، وأن شعبية المقاومة ستتزايد مع أي مواجهة قادمة مع العدو الإسرائيلي. ويدرك الأمريكان كما يدرك القادة العرب أن استخدام الأساليب الخشنة لإسقاط القطاع سيقابله اتساع دائرة السخط الشعبي على الأمريكان وعلى الأنظمة نفسها، وأن هذا هو مخاطرة، ونوع من "اللعب بالنار" في هذه المرحلة.
يبقى أن تدرك حماس وقوى المقاومة أن كل الإجراءات المرتبطة بتخفيف الحصار أو "الهدنة"، هي إجراءات تتمّ في إطار تكتيكي، وأنه عندما تحين أي ظروف مناسبة لأعداء خطّ المقاومة وخصومه، فإنهم لن يترددوا في إلغاء كل المكاسب التي حققتها المقاومة.
وبالتالي، فعلى قوى المقاومة في غزة وهي تواجه ضغوطاً هائلة أن تسعى إلى مزيد من الالتصاق بجماهير شعبها وأمتها، وتوسيع دائرة الشراكة الوطنية في إدارة القطاع وحمل همومه ومسؤولياته، ومتابعة الانفتاح على كل المبادرات التي من شأنها عودة مسار المصالحة وإنهاء الانقسام، وتقوية الجبهة الداخلية الفلسطينية في مواجهة محاولات تصفية القضية، وأخيراً القيام بحملة إعلامية وتعبوية واسعة، لتحشيد القوى كافةً لدعمها في مواجهة الحصار وفي مواجهة محاولات إسقاطها.
محسن صالح