الثقافي

"مثل جدار يطل من النافذة" لرمزي نايلي نكران للذات وانتصار للهامش

صدرت هذه المجموعة الشعرية عن منشورات القرن 21 هذه السنة

 

في مجموعته الشعرية الأخيرة "مثل جدار يطل من النافذة" يخرق الشاعر رمزي نايلي تلك الصورة النمطية لتضخم الأنا التي طالما التصقت بالشعراء، ويعلن -بشكل عميق- نكرانه لذاته، وانتماءه لعالم البسطاء المقهورين، عالم المفلسين إلا من لغتهم المضيئة، وأحلامهم الشاهقة.

يأتي عنوان هذه المجموعة الشعرية الصادرة عن منشورات القرن 21 (2016) كاسرا لأفق التوقع التقليدي الذي اعتاد على تمجيد المركز وتسليط الذكورة على الأنوثة الهشة الضعيفة، لتتحول النافذة المؤنثة التي كانت مجرد ثقب في الجدار إلى بؤرة مركزية بالاستناد إلى وظيفتها، فمن أين سيطل على العالم هذا الجدارُ المنغلق على ذاته، هذا الجدار الذي يوشك أن ينقض لولا أن تتداركه عناية النافذة بانفتاحها على الأفق الرحب.

ويشكل هذا الانتصار للهامشي ونكران الذات المذكرة - التي طالما مارست سطوتها وعنجهيتها، في العالم- مَلمَحا بارزا لدى رمزي، وهو ما يطالعنا بدءا من عتبة التصدير، التي جاءت في هيأة اقتباس لثلاثة مقولات، تشكل مرجعية وخلفية فكرية لرؤية العالم في هذه النصوص، وكل هذه الاقتباسات تصب في تيمة واحدة هي نكران الذات، والنظر إلى الإنسان ليس« كجرم انطوى فيه العالم الأكبر » بل مجرد ذرة صغيرة في هذا العالم الللامتناهي بدءا من مقولة علي البزاز « أحيانا يبدو لي العالم كثقب الإبرة لا يسع سوى خيط واحد وهذا الخيط، هو ليس أنا» فإذا كان هذا العالم مجرد سمِّ خياط، فإن رمزي يرى أن غيره أحق منه بالخلاص والخروج من هذا الثقب الإبري، رغم أن المقولة تنفتح على معانيَ أخرى، كأن يكون القصد أنه أكبر من أن يدخل ثقب الإبرة، إلا أن الاقتباسات الأخرى وما يرد في المتن من انتماء للهامش هو ما يجعلنا نرجح معنى النكران وجلد الذات الم يقل بول ايلوار في ثاني اقتباسات رمزي« من يمنحني الشجاعة كي أنظر إلى قلبي دون اشمئزاز» وهو المعنى ذاته الذي يطالعنا في نصوص هذه المجموعة ويؤكده الاستشهاد الأخير من الكتاب المقدس" فإن من أراد أن يخلص نفسه يهلكها" وهي دعوة واضحة وصريحة للتخلص من الأنانية رغم أنها تحمل أنانية مبطنة، فإذا كان دافع التخلص من الأنانية البحثُ عن الخلاص فقد تحولت إلى أنانية مضمرة.

وما يرسخ هذا النزوع نحو جلد الذات ما نجده مبثوثا في ثنايا هذه النصوص التي تشتغل بشكل مدهش على بناء الصورة الشعرية المتَفَلِّتة من كل أفق متوقع، وبفرادة، واتقان نادرين كقوله في النص الأول الذي حملت المجموعة اسمه:

«ما عدت أذكر.فلا شيء لي يدعو للمآثر سوى مشيئة الكأس.حين أسكبها فوق صلعة حياتي » ويشتغل رمزي على العدول والانزياح مضمنا جَلدَه لذاته بشكل انسيابي سلس يجعلك تشعر وكأن تلك الصور مألوفة، لما فيها من عبث ولعب بالمألوف « بسبب الحرب سأحبك دائما و سأفعل مثل أي قتيل مأجور يختار بعنايةٍ الرصاصةَ التي سيطعنُها بقلبه»ولا يخفي رمزي أنه لولا حكمة الشعر التي هي طريق الى رؤية الذات على حقيقتها، ولا شيئيتها فهو مدين للشعر الذي هو طريق الذات إلى الذات « وحدها حكمة الشعر من تَسبقُني فأصير اللاشيء الذي كنت»(ص30)

 

المراهنة على الجمال لمحاربة القبح (المرأة والشعر)

 

 يراهن رمزي في هذه النصوص بشكل لافت على الجمال لتحييد هذا الركام الهائل من الخراب والكراهية التي تحيط بالعالم، حتى أصبح مسكونا بالخوف والترقب رغم ما يوهمنا به من أن مراقبته " بحثا عن حبيبته« كّأنني سألمحك قربه أو فيه»ص20 « أصحو ! لأمارس عادة السر: المراقبة ! يجب أن اعترف أني بتُّ أراقب كل شيء..أراقب صوت الآذان وكأنه لأول مرة يشق الرعشة معلنا حروبنا مع السماء»ص20 وهذه الإشارة الأخيرة تكشف فلسفة هذه النصوص التي تنطلق من الانتصار للإنسان على حساب الإلهة التي تخوض حروبها الطائفية بكراهيةٍ مطلقةِ الضغائنِ والأحقاد، وهو ما لا يمكن التصدي له الا بقيم الشعر والمحبة لذلك يــــ«آتي القصيدة محمولا بنشوة الكآبة أركن جفون تعبي على ما بدى من الموت وأغمض الليل كي لا أنام....ثم إن وجهي موتٌ بملامح شاعر يخيط تهويم المساءات بإبرة استحالت سكينا مجروحا بدمي» (ص29) وهو أيضا ما يجعله يحاول مسح وجه العالم بمساحيق الشعر لعله يستعيد بعض بهائه «أمسح وجه الشعر بكفي : قلت، هكذا سأجَمِّلُ وجه العالم» (ص23)

وإذا كان الشعر لا يكفي لتحسين هذا القبح الذي يغلف العالم فإن الخلاص قد يصنعه الانتماء للمرأة «آتي الحبيبة منذورا لهباء ملتصق بسيرتي أعد رمل الغياب بسعف لا يكتبني»(ص30)

ثم يصر مستعطفا الحبيبة/القصيدة الضرتين اللتين تسكنان شغفه وتبقيانه على قيد الوجود « وحدك لا ظل لك، ولا شريكة معك في الوجوم، الباب موارب على الحكي، مشرعة القصائد على جرحي. نماء الأخيولة ذهابك في ذهابي»32

ويطل رمزي في جدار المجاز المطل من نافذة اللغة محاولا التوفيق بين الحسنيين المرأة والشعر « حاجتي إليك تشوه وجه الشعر وترهق بال الفراشة المرسومة على قميصك وأنا احبك ولا دخل لهذا بالقصيدة إطلاقا»(ص27)

 « يقرئني الحنيبن الــ في منافي عينيها الضياع، فأستحفظ أسماءها علَّ أنجو من خدش الكتابة وأنا المتأذي باسمي»(ص30)

 

الخمرة ..الوسط الذي بين النساء والشعر:

 

من العبث أن نحاول تحميل الخمرة التي تحضر في هيأة نبيذ وويسكيّ، وبارات وكؤوس وترنح، أكثر مما تحتمل وأن نحاول إيجاد معادل موضوعي صوفي، بليّ أعناق اللغة إلى ما لا يقوله النص ويشير إليه بشكل عارٍ إلا من غلالة المجازات الشفيفة التي تجعله يسقط من اعلي الويسكي إلى قاع السقف« غير أنني أكثرت وسقطت من أعلى الويسكي إلى قاع السقف» (ص34) ولعل هذه السقطة/الخبطة كانت في الرابع عشر من سبتمبر يوم«كانت الحانة ملاذا آمنا للحزن، والإفلاس أيضا»(ص56) وحين كان « الكأس ملح وكل العطش جرح ناقم... حتى صار كل العالم حاااانة وصارت خرائبي رقصة وأغنيات» (ص57).

إن الانتصار للشعر الذي أصبح فنا هامشيا -رغم تلك المقدرة السردية الكبيرة التي يبثها رمزي في نصوص "مثل جدار يطل من النافذة"-، وللأنوثة على حساب الذكورة وللبارات الحقيرة وأنواع النبيذ الرخيص، وللمهمشين والمسحوقين والمفلسين. كل هذه الإشارات والملامح تدفعنا إلى التأكيد على أن الولوج إلى أعماق هذه النصوص الجميلة لا يمكن أن يكون عميقا ما لم يستطع القبض على العلائق بين التيمات الأكثر حضورا في هذه النصوص (الكتابة/الشعر، المرأة والسكر).

  

مريم. ع/الوكالات

من نفس القسم الثقافي