الثقافي

درويش يبقى شاعر الحب والقضية

في ذكرى وفاة "شاعر المقاومة الفلسطينية"

متحف محمود درويش برام الله.. أثر الفراشة لا يزول

 

بعد انتشار شائعة وفاته, كتب "لاعب النرد" محمود درويش قصيدة يقول في مطلعها "صدقت أني مت يوم السبت" ورحل يوم السبت 9 أغسطس 2008, في إحدى مستشفيات هيوستن "تكساس، جنوب الولايات المتحدة" عن 67 عاما نتيجة مضاعفات أعقبت عملية جراحية دقيقة في القلب، ويعتبر النقاد أن هذه القصيدة تضيف إلى تكهنات درويش, ورؤياه لما سيحدث دائما من خلال كتاباته, لكن ربما أيضاً كانت الشائعة فرصة ليعبر الشاعر "المشهور عالمياً" عن وحدته, وبرغم كل الأصدقاء الذين يحيطون به "قلت: عليّ أن أوصي بشيء ما, فلم أعثر على شيء/ وقلت: عليّ أن أدعو صديقاً ما/ لأخبره بأني مت/ لكن لم أجد أحداً ...". الوحدة التي كتب عنها كثيراً, وبخاصة في ديوان "كزهر اللوز أو أبعد" وديوانه الأخير أثر الفراشة .

حلت أمس الذكرى الثامنة على رحيل واحد ممن كتبوا أسماءهم بحروف من نور في وجدان العالم العربي بنضاله وكلماته، فلم يكن مجرد شاعر يغزل الكلمات ليُخرجها في أبهى صورها ومعانيها فحسب، لكنه كان شاعرًا بدرجة ثائر، هو الفلسطيني محمود درويش، وترك فلسطين رغمًا عنه مع أسرته برفقة اللاجئين الفلسطينيين عام 1948 مع الاحتلال الإسرائيلي لها، وكانت لبنان هي القبلة التي قصدوها، لكنه تمكن من العودة مجددًا متسللًا إلى وطنه في 1949، بعد توقيع اتفاقيات الهدنة. 

وبعد عودته من لبنان، اكمل تعليمه الابتدائي والثانوي متخفيا خوفًا من أن يتم نفيه مرة أخرى اذا كُشف أمر تسلله، وبعد إنهائه تعليمه الثانوي اتجه إلى كتابة الشعر والمقالات.

وأخذ على عاتقه مهمة مقاومة الاحتلال حتى ولو بالكلمة، وهو ما جعله عرضة للممارسات القمعية من الكيان الصهيوني الإسرائيلي، الذي اعتقله اكثر من مرّة منذ العام 1961 حتى عام 1972 بتهم تتعلق بأقواله ونشاطاته السياسية.

ونزح درويش إلى مصر وانتقل بعدها إلى لبنان، وعمل في مؤسسات النشر والدراسات التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية، واستقال من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، التي كان عضوًا فيها احتجاجا على اتفاق "اوسلو" في تسعينيات القرن الماضي.

وشغل محمود درويش منصب رئيس رابطة الكتاب والصحفيين الفلسطينيين وحرر مجلة الكرمل، وكتب في عدد من الجرائد والمجلات مثل "الاتحاد والجديد"، الذي أصبح فيما بعد مشرفا على تحريرها.

ودرويش كما قالوا عنه ووصفوه فهو هوية إنسانية بامتياز، حيث نجح في أن يجعل اللغة تنتج حياة باسلوبه الفريد في الكتابة ومفرداته اللغوية المتميزة التي كان يستخدمها، فساهم في تطوير الشعر العربي الحديث وإدخال الرمزية في نصوصه التي يمتزج فيها الحب بالوطن والغربة والحبيب.

ومن أبرز أعماله الشعرية "ذاكرة للنسيان، حالة حصار، قصيدة إلى أمي، في حضرة الغياب ،عاشق من فلسطين، عابرون في كلام عابر، في وصف حالتنا، ورد أقل، مديح الظل العالي، وتلك صورتها وهذا انتحار العاشق، العصافير تموت في الجليل، سرير الغريبة وأوراق الزيتون".

وحصل محمود درويش على عدد من الجوائز منها: "جائزة لوتس، جائزة البحر المتوسط، درع الثورة الفلسطينية، لوحة اوروبا للشعر، جائزة ابن سينا وجائزة لينين في الاتحاد السوفيتي "روسيا حاليًا".

قبل وفاة درويش بأشهر قليلة، جاء تكريمه بإطلاق اسمه على أهم ميادين مدينة رام الله، وهو ما علق عليه وقتها: "من المألوف أن يكرم الأحياء، فالموتى لا يحضرون حفل تأبينهم، وما استمعت إليه اليوم هو أفضل تأبين أود أن أسمعه فيما بعد".

ومن أبرز اقواله:"ما معنى أن يكون الفلسطيني شاعراً، وما معنى أن يكون الشاعر فلسطينيا؟ الأول: أن يكون نتاجاً لتاريخ، موجوداً باللغة؟ والثاني: أن يكون ضحية لتاريخ، منتصرا باللغة .. لكن الأول والثاني واحد لا ينقسم ولا يلتئم في آن واحد"، "أتيت ولكني لم أصل.. وجئت ولكني لم أعد"، "ليتنا إستطعنا أن نحب أقل كي لا نتألم أكثر"، و"ما أشد سعادة المرء حين لا يودع أحداً ولا ينتظر أحداً".

متحف محمود درويش برام الله.. أثر الفراشة لا يزول

فراشات كثيرة تثور في الذاكرة وفراشات أخرى هناك في رام الله لا تكاد تفارق تلك الهضبة الواقعة في منطقة المصيون، تعلو في ذكرى رحيل الشاعر العربي الكبير محمود درويش مع بداية خيوط الشمس الأولى، لتبدأ تحليقها اليومي في أرجاء المتحف الذي يحمل اسم هذا الشاعر المهيب. فراشات صغيرة تعودت التنقل بين زهرات حديقة متحف محمود درويش برام الله، وفراشات أخرى تعودت على السفر بين زهرات شعره المستودع في ذات المكان، ففي المتحف «أثر الفراشة لا يرى.. أثر الفراشة لا يزول» كما قال درويش يوماً.

تعليقات الزوار

مئات الكلمات المقتبسة من لغات عديدة، عربية وإنجليزية، يفيض بها دفتر زائري المتحف الذي تأسس عام 2012م في الذكرى الأولى لرحيل درويش، من بينها «أحبك محمود درويش» وأوسطها «سجل أنا عربي» وأعلاها «أحن إلى خبز أمي.. وقهوة أمي.. ولمسة أمي»، تلك الكلمات التي طالما لهجت بها ألسنة الأبناء وهم يحتفلون بأمهاتهم، فدرويش الذي تمر علينا اليوم الذكرى السابعة لرحيله، لم يكن يدرك عندما دونها على علبه سجائره وهو معتقل، أنه لم يخاطب بها أمه فقط، وإنما تغلغل في قلوب أمهات العالمين أجمع.

 «فراشة شعر درويش» تكاد تغطي المكان، الذي لا تكفيك زيارة واحدة له، لأن تتأمل بعضاً من تلك الكلمات التي كتبها درويش بخط يده، قد لا يسعفك الوقت لأن تنتهي من «وثيقة» الاستقلال، تلك التي أكد فيها درويش يوماً بأنه «على أرض فلسطين ولد الشعب العربي الفلسطيني، نما وتطور وأبدع وجوده الإنساني عبر علاقة عضوية، لا انفصام فيه ولا انقطاع، بين الشعب والأرض والتاريخ».

على تلك التلة، تجاورت قريته البروة المهجرة مع مناطق الجليل، وبينهما نام الشاعر درويش، في فضاء مفتوح، ليلقي صباحاته ومساءاته يومياً على رام الله، ويبعث بسلامه للمدينة المقدسة، تلك التي طالما عشقها، واعتلت أسوارها كلمات فيروزية بأنه «لأجلك يا مدينة الصلاة نصلي».

ما إن تلج المتحف الذي صممه المهندس جعفر طوقان ابن الشاعر الفلسطيني الراحل إبراهيم طوقان، حتى تشعر أن درويش كان صادقاً عندما قال يوماً، إن «على الأرض ما يستحق الحياة»، فما يضمه المتحف بين جنباته من مقتنيات إنما توثق «حالة حصار» و«على محطة قطار سقط عن الخريطة»، «شاعر شاب» و«لاعب النرد».

متعلقاته

لا تكاد تنتهي من قراءة كلمات جداريته الموزعة في أرجاء المكان، حتى تمر على مجموعة قصاصات بعضها كتبه بخط يده، كما في رسالته إلى شقيقه أحمد المؤرخة في يوليو 1965، لا بد لك أن تعاين نظارتيه، وساعته، و«بكرج القهوة» خاصته، وفنجانه الذي طالما وصفه شعراً وتعلق به، وغليونه، وعدد من أقلامه، وصور متنوعة توثق لمختلف مراحل حياته، تلك التي تجاور بعضاً من دروع تكريمية حصل عليها الراحل خلال مسيرته.

مكتب درويش

أركان المتحف عديدة، لكن ألمعها ذاك الذي يحتضن مكتب درويش ومقعده وقد حمل بأحد معاطفه، وسجادة ومرآة طالما رأى فيها درويش نفسه خلال إقامته في رام الله والعاصمة الأردنية عمان، تقف طويلاً أمام المكتب، لترى درويش وهو ينكب شعراً.

مريم. ع/ الوكالات

من نفس القسم الثقافي