الثقافي
التاريخ الثقافي والذاكرة المبتورة
عمود
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 06 جانفي 2016
حين نتأمل تاريخنا الثقافي بهدوء ندرك مدى البتر الذي أصيبت به الذاكرة الثقافية الجزائرية على مراحل متفرقة، فبقدر ما يتسع تاريخنا الثقافي ليشمل أزمنة ومناخات حضارية وثقافية متعددة تضيق الذاكرة الثقافية للجزائريين بانتقائية مقيتة حتى لا تكاد تتذكر إلا شذرات قليلة ولا تعترف إلا بوقائع نادرة ولا تذكر إلا أسماء عجزت الأيام عن طمس ضيائها التاريخي.
لقد تضافرت عوامل كثيرة وتحالفت أطراف عدة من أجل طمس التاريخ الثقافي الجميل والمتنوع لهذه الشعوب المترامية في التاريخ وفي الجغرافية الشمالية لأفريقيا. ومن الملاحظ أنه منذ العصور القديمة كان الآخرون هم المعنيون بكتابة تاريخنا والأوصياء على تقييم ثقافتنا: المؤرخون اليونان والرومان في التاريخ القديم والرحالة العرب والمسلمون في التاريخ الوسيط وإيديولوجيو الاستعمار الفرنسيون والمستشرقون في التاريخ الحديث. وأخيرا إيديولوجو العصر الجديد: كل أحدث في تاريخنا الثقافي حدثا بحجم أوهامه وبما يستجيب لأهدافه. والنتيجة: جهل مطبق بتاريخنا الثقافي مع تشويه في تركيبة الذات وشعور عميق بالدونية الثقافية إزاء الشرق والغرب وملامح مترسخة من كره الذات وعشق الآخر.
ورغم القيم التي زخرت بها الثقافة الوطنية عبر التاريخ وتجلت من خلال أحداث وأسماء ووقائع فإن التاريخ الثقافي للجزائر يبدو فقيرا جدا باستثناء ذلك التمجيد-المفرط ربما- الذي حظيت به فترة حرب التحرير المجيدة بالقيم الأصيلة التي تمثلها - من حب الحرية والتضحية بلا حدود من أجل صنع المصير الجمعي الذي يحفظ مصير كل فرد وهي القيم التي نقلت بغموض شديد إلى الجيل الجديد مخلوطة بالوقائع العسكرية والمناورات السياسية بحيث تغرق القيم الثقافية في خضم الأحداث الزاخرة.
والأخطر من ذلك أن فترات كاملة قد محيت من تاريخنا الثقافي رغم أن التاريخ السياسي يوردها باحتشام مثل الفترة النوميدية والفترة الرومانية في مقابل التركيز على الفترة الإسلامية وخاصة الفترة العثمانية. والمسؤولية مشتركة بين أطراف عدة. فطمس التاريخ الثقافي جريمة متعددة الأطراف.
ورغم أن كثيرا من الوثائق الضرورية للكتابة التاريخية الرصينة ما تزال متناثرة في أنحاء شتى من المعمورة وما يزال أرشيف الفترة العثمانية والاستعمارية محتجزا في اسطنبول أو في إكس أن بروفانس فهناك دعوات ملحة إلى تسجيل الوقائع وتسجيل الشهادات في انتظار توفر الشروط الضرورية لكتابة التاريخ السياسي والاجتماعي والمؤسساتي. لكن التاريخ الثقافي ما يزال بعيدا عن الاهتمام ما عدا ذلك المشروع الفذ الذي كرس له المرحوم أبو القاسم سعد الله جهوده وتوج بعشرة مجلدات ضخمة تعد مقدمة للاهتمام بموضوع تاريخنا الثقافي. أن التاريخ الثقافي أحد نقاط ضعف الثقافة الجزائرية رغم أنه من الغنى والتنوع بما يجعله أهم نقاط قوتها. لكن الجهل والسياسة الميكيافيلية جعلت الثقافة مزيفا دائما في هذه الديار. فقد صارت الثقافة أحد المخاطر التي تتهدد البلاد.
ولننقل من الحاضر بعض التشوهات التي أصابت الذات من جراء الجهل بالتاريخ الثقافي لبلادنا. فما أن تكلم أحد المهتمين بتاريخ الجزائر الثقافي عن فترة ما قبل الإسلام حتى يشرع في سرد الوقائع المعروفة عن قبائل العرب وتاريخها مع قريش. وهي قبائل وثنية عاشت في شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام لا علاقة لها بهذه المنطقة وتاريخها وقيمها. فلماذا يحفظ بعضهم تاريخها عن ظهر قلب ولا يعرف شيئا عن تاريخ هذه المنطقة الذي لم يكن وثنيا على أية حال؟ لقد كان أسلافنا من المساهمين في التاريخ العالمي ولم يكونوا (قبائل متناحرة يأكل بعضها بعضا) بتعبير جعفر بن أبي طالب وهو يصف قبائل الجاهلية أمام نجاشي الحبشة طالبا اللجوء له ولأتباعه من المؤمنين.
وما أن تذكر اسما مثل أغسطين وهو فيلسوف ومصلح كبير حتى يسارع ذلك البعض إلى التبرؤ منه باعتباره يمثل ماضيا مرتبطا بالاستعمار الروماني. لكنك لو حدثته عن الحركة الدوناتية التي ناهضت أوغستين والرومان معا فستجده يجهل كل شيء.
وهكذا تجد بعض شباب الجزائر اليوم لا يعرف شيئا من ماضي أجداه الإيماني المقاوم لكنه يعرف كل شيء عن ماضي قريش الوثني وربما يعرف أيضا أن أوغستين هو مصلح الكاثولوكية. وهو أمر كاف ليتبرأ منه وكأن "أوغستين" زعيم حزب قدم ملفا وينتظر الاعتراف من هؤلاء الجهلة لكي يدخل التاريخ. هكذا يتم تشويه الذات واستبدال تاريخها بتاريخ مزيف ثم نطلب من الشباب أن يعيش عصره وأن يكون متوازنا في مواجهة أقوياء اللحظة التي صنعوا تاريخهم الرمزي الذي يعمر ذواتهم وفرضوه على غيرهم بوسائل حديثة تقف وراءها مراكز بحث ومؤسسات صناعية تعمل على تصنيع الأفكار وتعليب التفكير.
إن هؤلاء الشباب ضحية سهلة لكل أشكال التضليل والتلاعب والتوجيه والاستعمال. فذلك الشاب الذي يرى ماضيه في شبه الجزيرة -لأنه يجهل ماضيه المحلي وربما يحتقره- سيقف بسهولة في صف الدعوات التي تجنده للحرب في الشام أو في أفغانستان وقد تصل إلى تجنيده لارتكاب مجازر في بلاده وضد أهله وهو يتوهم أنه يعيد تاريخ الفتح الإسلامي ويقيم دولة وهمية تمتد من المشرق إلى المغرب تحت راية يتلألأ فيها سيف الفتح المجيد. أن عطب الذاكرة يولد عطب الذات ويترتب عن ذلك عطب السياسة.
بقلم: عاشور فني