دولي

فلسطين.. الاسم الباقي

القلم الفلسطيني



ما بال هذا الاسم؟ من أي معدن صُنع؟ ما بال هذه الأحرف الستة المتراكبة بطريقة عجيبة لا مثيل لها في اللغة العربية؟ كيف تمتلك كلمة متشابكة، مثل فلسطين، هذه القدرة على هزّ أرواحنا كلما ذكرت؟
القدرة على التجدد، والعودة دائماً إلى صدر الاهتمام، هي ما يميز هذا الاسم، فعند أي حدث أو شبه حدث، يتضاءل الاهتمام بأي حدث آخر، وتتصاغر أشياء حياتنا اليومية، تستيقظ تلك البقعة العميقة من إنسانيتنا، ونعود إلى التفاعل وكأننا في 1948، وكأننا نشاهد قوافل الهاربين من الموت الآن.
لم تستطع عقود من الابتذال والمتاجرة بالقضية أن تفقدها أهميتها وعمقها وأثرها علينا، نحن البشر، لم ينجح الطغاة والأنظمة الفاسدة في قطع هذا الرابط بين قلوبنا وقضيتنا فلسطين، وما زالت، على الرغم من كل شيء، هي القضية الشخصية لعشرات ملايين البشر، وما زال الاسم فلسطين مرتبطاً بالألم والقهر والظلم، وما زال موضوعاً غير قابل للنقاش.
ما زالت تلك اللهجة المحببة توقظ فينا مشاعر الحب والتعاطف والإعجاب بالصمود، وما زالت كلمات مثل (خيّا وزطون) تحرك آلاف الصور والمشاعر في عقولنا.
يتحرك الناس في فلسطين، اليوم، دفاعاً عن حقهم في الحياة، يتحركون (ومتى توقفوا أصلاً؟) بطرق مختلفة ومتنوعة، مجددين حكاية لم تتوقف فصولها نحو سبعة عقود، معيدين إلى الأذهان وإلى وسائل الإعلام، وإلى اهتمام الرأي العام، مفاصل من هذه العقود السبعة. فمن موجة التهجير المنظم والمتعمد، والتي بدأت في 1948، إلى نشوء حركات المقاومة، ثم تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية، إلى الانتفاضتين الأولى والثانية، حرق المسجد الأقصى، وغيرها وغيرها، مع التنويه أن كل يوم وكل دقيقة من حياة الفلسطينيين في الداخل وفي الشتات مفصلية وحدث تاريخي سيتوقف الضمير الإنساني عنده طويلاً.
في اللحظة التي كان فيها الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، يلقي كلمة في الأمم المتحدة يطالب فيها المجتمع الدولي بتحمل مسؤولياته لحماية الفلسطينيين من الجرائم التي ترتكبها حكومة نتنياهو، والكذب الذي تمارسه، كان طيار إسباني يقود رحلة لشركة آفيتا من مدريد إلى تل أبيب، يخبر الركاب عبر ميكروفون الطائرة عن قرب هبوط الطائرة، وتحدث الإنسان الذي فيه، فقال للركاب (جلّهم إسرائيليون): الركاب الأعزاء، لحظات ونهبط في فلسطين.
أثارت القصة غضب الركاب، ثم غضب الحكومة الإسرائيلية، وانتهت إلى وعد من الشركة الإسبانية بعدم تكليف الطيار برحلات أخرى إلى تل أبيب.
القصة بسيطة، وربما تكون عبارة الطيار غير مقصودة. وهنا أهميتها، ففي قصيدة محمود درويش (على هذه الأرض ما يستحق الحياة) يرد (على هذه الأرض، سيدة الأرض، أمَ البدايات أمَ النهايات، كانت تسمى فلسطين.. صارت تسمى فلسطين) أجل، كانت وصارت وستبقى، وسيظل اسمها يتردد من طيار إسباني ومن شاعر بيروفي ومن عامل صيني، ومن طفلة سوريّة تجاوزت الأربعين.
أجل، من طفلة سورية تجاوزت الأربعين، تتغلب أخبار فلسطين في قلبها، على الرغم من كل مآسي بلدها، وأبناء بلدها يكررون سيرة النزوح والموت والدمار، وبيوتهم مثل بيوت أهل غزة تتعرض للقصف، وأبناؤهم يتعرضون للاعتقال والتعذيب. وحين تتوالى الأخبار والصور من فلسطين، تعود تلك الطفلة الواقفة في باحة مدرستها تغني ملء حنجرتها لفلسطين. وأظن طفلة أربعينية أخرى في اليمن تشعر كذلك، وأخرى في العراق، وفي كل شتات الأمة العربية، يوحّدنا الموت والحروب، وتبقى فلسطين رمز شتاتنا ورمز موتنا ورمز ألمنا.
المشكلة التي لم يفهمها الغرب الداعم أو المتغاضي عن إسرائيل وجرائمها في حق الفلسطينيين، أن مشكلتهم لم تكن يوماً مع الحكومات والأنظمة، وأن فلسطين قضية شخصية لكل واحد منّا، ومهما تاجر طغاة بلداننا بفلسطين وبقضيتها، فهم لن يستطيعوا أن يلصقوها بهم، ولن يستطيعوا أن ينتزعوها منّا، ولا أن ينتزعونا منها. سنظل نختلف معهم على كل شيء، حتى لو قالوا كلماتٍ لا يعنونها عن فلسطين، فسنكرر الكلمات ونحن نعنيها، سنكرر كلماتهم ذاتها من دون أن نشعر أننا نلتقي معهم على شيء، فالعلاقة مع فلسطين، كعلاقة الإنسان مع الإيمان، بينه وبين ربه، ومهما قال الكافرون آمنّا، سنظل نقول آمنّا، وسيظل الإيمان خيطاً يمتد من القلب إلى الله، يمتد من القلب إلى فلسطين.
علا عباس

من نفس القسم دولي