الثقافي
قبْل التّفكير
عمود
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 27 جوان 2015
نعرف أنّ الفلسفة هي أُمُّ العلوم؛ وهي مَن تُحرّك العالَم بما يُنتجه العقل البشريّ مِن أفكار؛ وممّا لا شكّ فيه أنّ اختلافًا واضحًا يظهر بين النّظريات الفكريّة المتعاقبة؛ لأفلاطون رؤية خياليّة؛ ولأرسطو رؤية واقعيّة؛ ولغيرهما تصوّرات أخرى... وانطلاقًا من قول العرب: "لا يُنسب قول لساكت"؛ أتساءل: هل يَنتج تفكير لعقل غير نشط؟.
في كلّ زمان تُولد النّظريات الفكريّة؛ منها ما تُولد ميّتة؛ ومنها ما تذوب في نظريات أخرى؛ ومنها ما تُقاوم من أجل الحياة... نتيجة لذاك الزّخم الفكريّ وصل العقل البشريّ إلى حقيقة استنساخ نجاحات سابقة وإبعاد كُلّ هزائم حالقة ! وهذا ما يجعل كُلّ عاقل يقول: يجب مقاومة أيّ ميراث ثقافيّ سيّئٍ لأيّ اُمّة من الأمم؛ أقول: دعوا الفكر يناقش الفكر!.
في حين؛ تظلّ "عقول مقفلة" إلى أجل غير مسمّى! إنّ أيّ كلام بعيد عن الحكمة يُجانب الصّواب؛ وينفر منه العقل؛ ولا يألفه لحظة واحدة؛ وقد يرفضه العقل جملةً وتفصيلًا؛ ورغم ذلك نظلّ نبحث دائمًا عنِ الحقيقة التّاريخيّة؛ وقدْ نغتال وقتًا بريئًا مِن أجلها دون الوصول إليها فهي أقسى مِن الحجارة وألهب مِن النّار وأعتى مِن الجبال؛ هكذا تبدو.
البحث عن الحقيقة واجب وإنْ طُمستْ معالمها؛ وهو واجب كلّ جيل لا يعيش الوهم والسّراب والخرافة؛ ولا يُصرّ على الجهل والتّخلّف رغم تكدّس المعارف وتنوّعها.
يجب التّعامل مع ثقافات العالم وحضاراته دون الذّوبان فيها؛ نَعم لتلاقحٍ معرفيٍّ خصيبٍ؛ نَعم لتكامل ثقافيّ لأنّ الحضارة اليوم صارت مشتركًا إنسانيًّا عبْر طرق تفكير مهذّبة ومنتجة ومستفيدة مِن التّجارب الإيجابيّة للآخرين؛ نحْن في زمن "العقل المفتوح" الّذي يُناقش كلّ شيء من أجل حياة أفضل للبشريّة؛ فالعقل ثروة حقيقيّة ورأس مال الإنسان دون منازع؛ لذا يجب علينا تنميّة بشريّة آنية؛ فالوقت لا ينتظر أحدًا؛ نحن لا تعيش لوحدنا في الكوكب الأزرق؛ يجب علينا أن نؤثّر في الآخرين بإيجابيّة مِثل ما يؤثّرون فينا بإيجابيّة؛ وهُنا يَحصُل "الإنجاب الحضاريّ" لا "العقم المعرفيّ" في ظلّ تفاعل إنسانيّ سريع يترك خلفه رُكامًا مِن النِّتاج؛ فيها الجيّد والأجود؛ والسّيّئ والأسوأ.
أُلاحظ أنّ لتّفكير العقليّ غائب حينًا ومُغيّب أحيانًا؛ ويَكثر التّفكير العاطفيّ البحت؛ ما أحوج البشريّة لكمّيات كبيرة مِن التّفكير العقليّ؛ ها هو العالَم اليومَ يَفخر بما تركه الفيلسوف ابن رشد مِن آثار معرفيّة خالدة.
حين نُنشّطِ العقل؛ ونذقِ المعرفة؛ ونفهمِ الثّقافة -وهي محطّات ضروريّة- نسافرْ نحو الحضارة بأدب وإنْ احتدمتْ قوالب فكريّة وفلسفيّة وثقافيّة وسياسيّة في صراعات غير منتهية.
ما دام العقل مِن أفضل نِعم الحياة؛ وهو مِصفاة الحياة؛ يجب على الإنسان معرفة "جوهر العقل" قبْل نشاطه وقبْل أيّ عمليّة تفكير؛ ومِن ثَمّة استخدام طاقة العقل القصوى قدر المستطاع... لا وعي إنسانيّ دون العقل؛ نحْن لا نريد إنسانًا حافي العقل؛ بلْ نريد رؤية "عقول نشطة" لإنشاء بنيان مرصوص مخصوص لمهامّ حضاريّة آنية ومستقبليّة؛ فما أجمل نشاط العقول وهي تترنّح في سيرها نحو الوعي المنشود.
العقل مِثل الهاتف الخلويّ؛ حين يكنْ مغلقًا لن يتّصل حامله عبْره مع أحد؛ ولن يستطيع أحد الاتّصال به عبْره... إنّ المسار المعرفيّ السّليم هو الّذي يبدأ بالعقل قبْل اللّسان؛ وممّا لا بُدّ منه أنّ العقول تحيى بالتّفكير فالتّفكير ضرورة عقليّة؛ وكُلّ عقل لا يُمارس عمليّة التّفكير هو عقل ميّت... فالعقول ليستْ للزّينة؛ بل هي للتّفكير والتّفكير وحده فقط... إذنْ؛ يجب أن نُنشّط عقولنا قبْل التّفكير.
بقلم: جمال بوزيان