الثقافي
لم يقرأني العرب كما قرئت في العالم
عقد وعام على رحيل إدوارد سعيد:
- بقلم جريدة الرائد
- نشر في 01 أكتوبر 2014
هذا نص لإدوارد سعيد، ينشر، للمرة الأولى، في صيغته الراهنة. ولهذا النص قصة، سأرويها هنا، قبل أن ندلف معا إلى سطوره. بداية، أدين في تعرفي إلى إدوارد سعيد ولقائي به في لندن سنة 1996، ومرات أخر في سنوات لاحقة، بما في ذلك إنجاز حوار فكري مطول معه، إلى صديقي الناقد صبحي حديدي، الذي ربطته به علاقة وثيقة (كان الطرف الثالث فيها الشاعر الراحل محمود درويش)، فهو من عرفني به، ليتسنى لي بعد ذلك إنجاز الحوار، في إطار مشروع أوسع، شمل جلسات حوارية مع عدد من المثقفين الفلسطينيين لمساءلتهم حول جملة من القضايا المتشابكة المرتبطة بالقضية الفلسطينية، ولاسيما بحق العودة للفلسطينيين، كان بينهم إلى جانب إدوارد سعيد: هشام شرابي، حيدر عبد الشافي، محمود درويش، سلمى الخضراء الجيوسي، شفيق الحوت، وآخرون، جمعتها لاحقا بتشجيع من هشام شرابي في كتاب حمل عنوان “بيت بين النهر والبحر”، صدر في بيروت سنة 2000.
في الذكرى الحادية عشرة لرحيل إدوارد سعيد وجدت نفسي أعود إلى هذا الحوار الذي أنجزته معه سنة 1996، وترجم ونشر في لغات عدة بينها الفرنسية والإنكليزية والألمانية والتشيكية، واحتفى بإعادة نشره عدد من المجلات والكتب التي أصدرها نقاد غربيون، لأجد فيه التماعات قيمة للمفكر الراحل، يجدر بقراء العربية، اليوم، في ظل المخــاض الكبير الذي نعيشه، أن يقفوا عليها.
أما وقد تباعد الزمن بنشره عربيا، فلربما للوقوف على محاور أساسية فيه فائدة معرفية مضاعفة في لحظتنا الراهنة، لما تحمله من برهان على النظرة الثاقبة التي ميزت فكر هذا الرجل حول جملة من القضايا الفكرية، التي شغلت هذا المفكر في فترة حاسمة من حياته.
هذا النص
يهمني أن أشير، هنا، إلى أنني اعتمدت يومها، في محور أساسي من محاور الحوار مع إدوارد سعيد، على ما قام به صبحي حديديمن تلخيص لحلقات عمل المفكر في خمسة أعمال أساسية له، هي: “جوزيف كونراد ورواية السيرة الذاتية”، “العالم، النص، الناقد”، “الاستشراق”، “تغطية الإسلام”، “الثقافة والامبريالية”.
في الأول عمل على نقد التمركز الأوروبي حول الذات. في الثاني طرح، للمرة الأولى، منهج النقد العلماني والنظرية المترحلة، وكشف مدى تأثره بمدرسة النحاة العرب في التحليل البنيوي للنص، وأثر أستاذه أنيس فريحة في تعريفه على كلاسيكيات الأدب العربي. في الثالث حلل العلاقات المعقدة بين القوة والمعرفة من خلال قراءة ونقد الخطابات للغرب الاستعماري في الهيمنة على العالم واختزال وجود “الآخر” في ثيمات عليا ودنيا تنمطه وتستلب شخصيته الحضارية الخاصة تمهيداً لإخضاعه.
في الرابع نجد إدوارد سعيد يحلل تغطية الإسلام من قبل إعلام الغرب ومفكريه ويفكك الصور النمطية التي ركبها للإسلام بحيث يبدو منفراً ومرعبا.
في الخامس واصل تشكيل صورة الثقافة بعلاقتها بالهيمنة، وذلك من خلال استكماله لأطروحاته التي بدأها في كتابه “الاستشراق”، عبر بحث علاقات القوة والمعرفة استناداً إلى التأثير الحاسم لـ “الخيال الامبراطوري” في تأسيس الشخصية الغربية المعاصرة، و”توريط” الثقافات بذاتها لاستكمال قسمات هذه الهوية من جهة، وتحديد قسمات “الآخر” من جهة ثانية.
هذا الرجل
لا يختلف اثنان في كون إدوارد سعيد مفكرا حراً، وأخلاقيا لم يهادن، ومثقفا موسوعيا رفيع الموهبة والمقدرة النظرية. كرس نفسه خلال رحلته القصيرة، نسبيا، قامة فكرية معاصرة تحركت من داخل النسيج الحي المتصارع للثقافات في العالم، وعكست بمنطقها المتماسك ورؤاها الخلاقة الأبعاد الإنسانية والتحررية للفكر، والقدرة على هدم أسس خطابات التسييد، كما فعل في جل أعماله.
اخترق إدوارد سعيد ببصيرته النافذة البنى التي تقوم عليها ثقافة الغرب الاستعماري، ووضع من خلال كتابه “الاستشراق” علامة “غيرت وجه البحث العلمي حول الشرق والغرب، والغرب والعالم، والعالم الثالث إجمالاً”، حسب دنيشيا سميث (أحد أبرز النقاد الأميركيين)، وجعلت الوعي المعاصر في الغرب يقيس في قراءته “الآخر” على ما قبل هذا الكتاب وبعده. وقد اعتبر إدوارد سعيد فيلسوفاً وناقد أدب وصاحب أفكار سياسية، يتحرك انشغاله في القضايا على قوس واسع يشمل مناطق تفكير مختلفة اختلاف الثقافات، ويملأ ثغرات أساسية تتعلق بالأسئلة الحضارية الكبرى.
القراءة الإسلامية
يعلن إدوارد سعيد، خلال الحوار، اختلافه مع القراءة الإسلامية لكتاباته وأفكاره، خصوصا في كتابه “الاستشراق”، ويعتبرها قراءة تأويلية معاكسة لاتجاه النص. في حين يعتبر القراءة العربية لكتابه هذا كاريكاتورية في بعض الحالات، لكونها جعلت لكلمة “مستشرق” وقع الإهانة، وهو يأسف لعدم ترجمة أي من مؤلفاته النقدية إلى العربية، ليمكن للقارئ العربي الاطلاع على جوانب أســـاسية من فكره النقدي واهتماماته النقدية.
ولو أردنا أن نقيم موقفه بالنسبة إلى قضايا الحرية وحقوق الإنسان فهو موقف مشرف، لكونه بدا، باستمرار، مدافعا صلبا عن الحقوق الفردية والجماعية لكل الناس، بصرف النظر عن أجناسهم وعقائدهم، لا يتوانى عن مواجهة السلطة أيا كانت، انتصارا لحقوق الإنسان، وقد كرس فكره ومؤلفاته وحياته من أجل ذلك. (دفع في بعض الحالات ثمنا لذلك حظرا على مؤلفاته في أكثر من بلد عربي) فهو في الجوهر من عمله الفكري عمل على تفكيك الظواهر التسلطية والإخضاعية بأدوات فكرية بالغة الرقي، ووفق نظرة شمولية لم تكف عن مغادرة مواقعها المعرفية التي حصلتها، إلى استجلاء ما هو أكثر تطورا وغنى وإنسانية في التجارب الفكرية والروحية للبشر، ووقوفا على معاني وجودهم في الكون.
إن جانبا مهما من الحيوية الفكرية التي يتمتع بها إدوارد سعيد يتجلى في نص المحاورة التي نحن بصددها، والتي انتخبت منها مقاطع، وجرّدتها من أسئلتي التي استدعتها، وحرّرتها بأمانة تامة، لتكون بمثابة نص من مقاطع وفقرات بقلم إدوارد سعيد نفسه، لا يتعدى تدخلي فيه أكثر من وضع عناوين تميز بين أجزاء النص. وسوف يلمس القارئ، بلا شك، مدى صوابية أفكار إدوارد سعيد وارتباط القضايا التي تناولها هنا، مع المجريات العربية الراهنة، إن كان في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية ومآلاتها، أو بواقع الفكر والتفكير وبشبكة القضايا المعقدة التي فجرت الانتفاضات العربية في ما عرف بـ”الربيع العربي”.
العرب اللندنية
نوري الجراح