الثقافي

التشكيلي السوري خالد الخاني يروي تفاصيل من مجزرة حماة 1982


 

خرج مع صفوف الباحثين عن الحرية على امتداد الكون، لم يكن مقدّرا له أن يصبح بحارا، أو يعرف السباحة، لأنه يخاف من النزول إلى الماء، لذا سبح في بحر الرسم، التشكيلي السوري، خالد الخاني من مواليد سنة 1976، لوحاته تأتي بعناصرها مشمولة بآفاقها المأخوذة بالمغامرة، إذ ثمة فعاليات لا تفكر في تفادي تقليدية العمل الإبداعي. عن الرسم والحياة والحرب والموت كان لنا معه هذا الحوار.

بداية مسيرة الفنان التشكيلي السوري خالد الخاني لم تكن عادية، ولا تمتّ إلى هذا المجال بصلة. يقول الخاني: “لم يكن هناك ما يشير إلى أنني سأصبح فنانا تشكيليا سوى شغف بممارسة الرسم أينما كان بالإمكان. أذكر بالمدرسة أنني كنت لا أشعر بوجودي الحقيقي ومكانتي، إلا اذا كان الدرس رسما أو حديثا يلامس موضوع الرسم، كانت أمي ترسم أمامي ليلا، وكان عليّ أن أصبح طبيبا كوالدي وبقيت كذلك حتى لحظة الدخول إلى الجامعة بسبب قلة علاماتي ودخلت الفنون الجميلة، وكنت سعيدا لأني لم أتوجه لدراسة الطب، ولم يكن ذلك متوقعا أن يحصل منّي على الأقل ربما لم يكن غير مستغرب أن يكون فنان من عائلتي بكل المستويات العلمية والاجتماعية والخ. هكذا كانت النظرة سائدة بين أفراد العائلة الكبيرة، وربما عائلتي الصغيرة أيضا. كان لا بد من أن أكون شجاعا كفاية حتى أحقق ما أريد وكان ما أردت، إذ عبر سنوات استطعت أن أغير كل ما كان ورائي بالعائلة وربما بالمجتمع المحيط بها أو ربما أكثر من ذلك، وأنا منذ الصغر معروف بالعناد والإصرار.

رأيت المستقبل

الغموض والغوص في متاهات الحلم الصارخ بالغموض هي مجمل عناصر أعماله الفنية وكأن ألغاز الوهم الخرافي عبر هيامه في الهواجس الدائمة في تنويعات فنه. يرسم من حلم مزعج يستيقظ دائما عليه ألأنّه الواقع المحشو بالتناقض والكوابيس اليومية أم إنها معطيات الخيال؟ عن رموز لوحاته ونظرته إلى الوجود يقول الخاني: ” في الحقيقة، هي هواجس وآلام وأحلام وضغوط حياتية وقراءة واقع وإعادة تركيبه من بداية تناسبني، معتمدا على ركيزة ذهنية تصوغ ذلك بتراكيب تحمل مضامين وإيحاءات وقيما جمالية ومتعا بصرية بميزان دقيق، لا أسمح من خلاله الوقوع بمطبات تزيينية باتت سائدة بمنطقتنا وتحت مسميات مختلفة. أنا أراهن دائما على عوالم أصوغها في لوحاتي وأرسل إليها بعضا من روحي، علّها تصبح حياة ضمن الحيوات التي نعيش.

ويضيف الخاني قائلا: ” ربما هناك آلاف اللحظات التي رسمتها قبل أن تحصل وليس بشيء من التوقع أو التمني لا بل بشيء من الثقة واليقين بالصيرورة ولكن من دون تاريخ. أنا رسمت المظاهرات قبل أن تحصل ربما بأكثر من عشر سنوات ورسمت القتل وانكسار الديكتاتور والكثير من المفردات أو العناصر والخ، وكأني أطلق صوتا في الفراغ وأعلم أن صداه سيعود يوما، فاللوحة عالم بأكمله أبنيه كما أشاء ".

يخدرني اللون

يستعمل الخاني في لوحاته الألوان الصارخة، بعد أن يخضعها إلى تمازج غريب، في هذا الشأن يقول الخاني:” يتابع علاقتي مع النور والعتمة المتناقضين الكبيرين على سطح لوحتي ضمن العلاقة الجدلية بين جميع المتناقضات بحياتنا وليست لهم أية نهاية، من خلال ذلك بلحظة انبعاث لون يطغى على المشهد ليقوم بدوره وبتأثيره على العناصر الأخرى المتواجدة ضمن المشهد المصاغ على شكل أو لون بين جميع هذه المعادلات، وأحيانا كثيرة هناك لون ما يتمرد عليّ وأحاول ترويضه وربما يبقى يضيء ما بداخلي، فأشعر بسكينة وخدر فاستسلم له، ليس هناك على سطح لوحتي ما يحاورني من ألواني وليس هناك ما يدخل بـ”هارموني” اللوحة. وتراني أحيانا أرمي بالمشاهد خارج إطار اللوحة لأعيده من جديد وليس هناك ما يخرج عن الحوار إلا أنا كعادتي وتبقى ألواني كما أريد.

حماة ذاكرة اللوحات

لكل فنان شغف ومؤثرات، والخاني متعلق جدا بمدينته الأم “حماة” التي رسمها في أكثر من مشهد وعلى بياض أكثر من لوحة والتي نلاحظ فيها نوعا من الفرح الممزوج بالحزن، يبرز هذا في صراع مع اليأس. عن اليأس الممزوج بالحزن، وعن علاقته بحماة يقول الخاني:” حماة هي الذاكرة الأولى وتبدو الأخيرة أيضا. من المستحيل أن أشفى منها لحجم الحياة التي عشناها قبل المجزرة وأثناءها وبعدها. هي مجزرة ربما تعطيك مخزونا لآلاف اللوحات، لا بل لملايين الأعمال ومن المستحيل أن تنضب، هناك على ضفاف العاصي كانت أولى لوحاتي وأولى مشاعري، عندما بدأ مشروعي كإنسان وفنان وهي ليست بمدينة عادية فهي تحمل أبناءها أكثر مما يجب وهذا بيت القصيد.

سنحول معتقلات الأسد إلى متاحف ومعامل ونعيد بناء كل شيء من جديد

ويضيف الخاني قوله:” في فبراير- شباط 1982 كان عمري 6 سنوات وكنت في الصف الأول ابتدائي، في حماة كان الألم كبيرا لنا جميعا، من كل الفئات والانتماءات، ألم تقاسمه أهل المدينة سواسية من دون تفرقة، عشنا مرحلة سوداء من دون أن نعرف أن هذا الأمر سيظل كالسكين يقطع في ذاكرتنا، يخفي دموعنا ويمحوها أحيانا، رائحة المكان أتذكرها جيدا، كانت لا تطاق، ولا أريد أن اُخرج شيئا جديدا من ذاكرتي الآن. أبي كان طبيب عيون، لم يكن من جماعة الإخوان المسلمين لكنه انحاز لأهل مدينته المستباحة، تسرّب خبر إلى الضباط بوجود طبيب بين جموع المعتقلين وكانوا أكثر من خمسة آلاف في معتقل “معمل السيراميك” جنوب المدينة. تم جمع المعتقلين في الساحة وبعدها قال الضابط الكبير: نريد طبيبا، وأوحى للجميع أن هناك حالة إسعاف مستعجلة فخرج أبي ولبى النداء وهو الذي أقسم قسم “أبقراط” وكان هناك طبيب آخر لبى نداء الواجب، ولكنهما لم يعلما بالمكيدة. سُحل أبي وزميله وعذبا من دون رحمة واقتلعوا إحدى عينيه، أهل حماة يشهدون على ذلك، لقد قلعوا إحدى عينيه وهو حيّ ثم قتلوه، ثم سلم جسده للمستشفى الوطني وبقي مرميا مع الشهداء على باب المستشفى. لم تنته عذابات أبي حتى بعد وفاته، فقلعت عينه الثانية هناك وأخرجت بطاقته الشخصية وخرزت في ملابسه، لما دفناه، وكنت صغيراً، أذكر أنه كان بلا عينين”. ويضيف الخاني: ”القصص التي رويت لنا من الناجين عند هروبنا الكبير من مجزرة حماة كثيرة".

منها قصة عائلة مؤلفة من أب طاعن في السن ومريض وله ابن شاب صغير كان عمره يومها 15 سنة، وهو الذكر الوحيد لهذه العائلة بعد ثلاث بنات. روت الأم بعد المجزرة أنه بعد مغادرة أهل الحي أمطرت مدفعية جيش الأسد الحي بالقذائف بشكل مكثف حتى تأكد الجيش من عدم وجود أحياء في البارودية. دخل الجيش ووجد هذه العائلة مع الأب المريض. الضابط سأل الأب عن سبب عدم هروبهم مع من رحلوا من المدينة، وقال له هل تريد أن تقاوم؟ فأجابه الأب أنا لا علاقة لي بالمشاكل ومريض ولا أستطيع حتى المشي، وهذه عائلتي بقيت لترعاني.

في ذلك المنزل ضحك العسكر من كلام الأب العاجز، فيما الضابط طلب من الفتيات أن يخلعن حجابهن ليتأكد أنهن نساء ولسن رجالاً. رفضت الفتيات القيام بذلك، وبدأن يترجّين الضابط لعدم إجبارهن على ذلك، ولكن الضابط أصرّ على ذلك كنوع من الإذلال للعائلة. بعدها بدأ الضابط بمفاوضة الأب بكل سفالة أن يتركه حياً شرط أن يوافق على اغتصاب إحدى بناته. بكى الأب وثار في وجه الوحشية وتبعه ابنه الشاب فقتلوهما وأمعنوا في تشويه جثتيهما أمام الجميع، وقاموا باغتصاب واحدة من الفتيات وبعدها أخرجوهم جميعا بسيارة من الحي، والفتيات الثلاث تزوجن وعندهن اليوم أولاد، وهن لا يتكلمن عن ذلك اليوم الأسود.

لا ألتزم بقاعدة

يذهب البعض إلى أن هناك أولوية لأحد مكونات اللوحة على الآخر، كالموضوع، أو الشكل أو المادة أو اللون، هذه الأولويات تحتمي وراءها عادة الفكرة، الخاني قد لا يهتم إلى هذه الأمور كي يخلق نوعا جديدا من الطرائق، يقول في هذا الشأن:” كل شيء في لوحتي له أولوية. لا يمكن أن يكون شيء على حساب شيء. أتعامل مع لوحتي أيضا بموازين من وضعي أنا، وربما أكون صارما بقوانين في لوحتي، وتبقى فقط للوحتي، وبهذا يكون كل شيء محقّقا كما أريد أو كما يريد ما يخرج من روحي أن يعبر عنه".

التفاعل بين لوحات الخاني ومدارس الغربيين لا يبدو بارزا للعيان وهو ما أكده التشكيلي السوري حين ذهب إلى أنه “ليس هناك قاعدة ثابتة على الأقل بالفترة الأخيرة، ففي مراحل سابقة كنت أعمل بدفق داخلي ومن دون تخطيط ولكن اليوم تغير شيء كثير بتجربتي، فربما دخلت في عوالم مختلفة، وربما تكون هناك آليات صناعة عمل فني بحكم تأثير الفن الأوروبي على تجربتي وربما اكتشف قدرات أخرى بأدوات تعبير مختلفة عن تلك التي استخدمتها، ولكن الآن أكثر ما يستحوذ على دماغي كيف أحوّل معتقلات الأسد إلى متاحف أو حتى معامل سورية أيضا، ونعيد بناء كل شيء من جديد وبمفاهيم حقيقية وليست زائفة".

 

 

من نفس القسم الثقافي