الثقافي

شخصية روائية تطارد هويَّتها وذاكرتها 'كرة ثلج'

 

 

سواء في القصة أو الرواية تكشف لنا أعمال المبدع عبدالرحيم جيران، الكاتب المغربي الذي ولد سنة 1955 بالدار البيضاء وتنوع إنتاجه بين الشعر والنثر، عن مدى قدرته على الانتفاع من معارفه العلمية والنقدية والفكرية، دون أن يسقط في نرجسية “ذات الكاتب”، التي تقول: “أنا موجود بالقوة”. وإنما يستثمر كل ذخائره مراعيا حدود الجنس الأدبي، ومحافظا على الحس الجمالي والأثر الفني للعمل الأدبي.

يبدو الوعي النقدي بحدود الجنس الأدبي في رواية كرة الثلج، الصادرة عن دار الآداب، بيروت، 2013، في تجريب الروائي لشكل جديد في السرد، قائما على “السرد المضاعف”، الذي يستنطق الذاكرة على لسان راويين ينتميان إلى الفضاء الأسري نفسه، ويعيشان الأحداث نفسها، إلا أن كلا منهما يحكي من وجهة نظره الخاصة، بنظرة تحتكم إلى أنساق مرجعية ذاتية واجتماعية ونفسية مختلفة، حيث ستختلف رواية الأم “لالة عين الناس” عن رواية الابن “الصادق”.

 

ثنائية ذاكرة

تتوزع الرواية بين كتلتين كبيرتين: الدحرجة الأولى تأتي أحداثها على لسان لالة عين الناس (الأم)، والدحرجة الثانية يتولى الصادق الابن رواية أحداثها. وتلحم الذاكرة بين الكتلتين ليس باعتبار ذلك استحضارا لواقع الماضي، بل باعتباره بحثا عن بدائل الزمن المنفلت داخل ذوات أخرى، قد تكون أشياء أو صورا أو أحلاما مرتقبة. تقول لالة عين الناس: “فرغم أن لا أحد معي بالبيت الآن، فهناك من يسمعني وأنا أتكلم… الصور المعلقة على الجدار تتحدث معي، والأشياء أيضا… إنها تذكرك بشيء ما”.

من هذا المنطلق، تختلف بواعث استخدام الذاكرة داخل كل دحرجة سردية، إذ ترتبط في الدحرجة الأولى بإحساس الأم بالوحدة: “من لم يجرب الوحدة، لم يعرف كم هو مؤلم وخزها… الوحدة، لا الفضول، هي التي تدفعني اليوم إلى عدم التوقف عن الكلام… الكلام وحده يشعرني أنني لست وحيدة، أو يجعل الأشياء من وحلي تشاطرني عزلتي”.

الذاكرة ليست استحضارا لواقع الماضي بل هي بحث عن بدائل الزمن المنفلت داخل ذوات أخرى.

أما بالنسبة للصادق فهوسه من الغد، وتخوفه من الآتي دفعاه إلى الإحساس بالفراغ، وثقل الزمن الرتيب: “حين يضمحل الغد لا يكون الماضي سوى فراغ مميت، فكيف يحكي المرء الفراغ”.

توحدت موضوعات الذاكرة وشخوصها وأماكنها ما دامت لالة عين الناس والصادق قد عاينا المسار الحياتي نفسه. واختلفت أسباب استدعاء الذاكرة لديهما كما اختلفت أنماطها بين عوالم الشخصيتين، لذلك يمكننا التمييز بين نمطين من الذاكرة:

ذاكرة محرّفة ارتبطت بالأحداث التي استحضرتها لالة عين الناس، أحداث تتأرجح بين الصدق والتخيل، إذ حرفت العديد من الوقائع، “فحادثة السيارة التي اختلقتها، صارت تتضخم إلى أن تحولت إلى أحداث يتوالى بعضها منبثقا من بعضه ومختلطا به، ومن هذه الأحداث ما هو صحيح، قد وقع بالفعل، وقد تكون التقطته سماعا، ولم تعشه أبدا، ومنها ما هو مختلق لم يحدث على الإطلاق”.

يعود هذا التحريف حسب ابنها الصادق إلى أنها “تعيش حياتها موزعة بين لحظات صفو تتمتع فيها بكل نعم العقل، ولحظات تفقد فيها اتزانها النفسي، فتستولي عليها نوبة جنون مدمرة تجعلها تتخيل ما ليس بكائن أبدا، وتسبح في عوالم أخرى”.

 

الخيال السردي ومورفولوجية الأشكال في "كرة الثلج"

تعبّر الذاكرة المحرفة عن هشاشة الذات في علاقتها بالزمن، فلالة عين الناس تنظر إلى الحياة المستعادة لا باعتبارها ذكرى، وإنما فعل حقيقي، أبعدها عن الأحلام، ودفعها إلى أن تعيش قسوة الزمن”. وتيقنت أن حقيقتنا تهرب منا في اللحظة التي نظن أننا قد أفلحنا في الإمساك بها”.

وأمام وضع مليء بالألم والقسوة، تندرج الذاكرة في سياق جمالية ثنائية تقوم على المحو والاستبدال، محو وقائع وشخصيات وفضاءات واستبدالها بأخرى في إطار لعب تخييلي لا يرى في اليقين كائنا ثابتا، ولا يعتبر الحقيقة معطى مطلقا.

النمط الثاني من الذاكرة هو الذاكرة المرمَّمة، تكشف الدحرجة الثانية عن رغبة الصادق في تصحيح وضبط رواية أمه لالة عين الناس، هو الذي لا يؤمن بالحكايات والخرافات المغرقة في الماضي، ولا يؤمن إلا بما يقع في الحاضر. يجد نفسه مضطرا إلى ترميم ذاكرة والدته فيقول: “وأظن أن لي الحق في توضيح بعض الأمور التي وردت في روايتها، وسأجدني مضطرا إلى أن أحكي بدوري”.

هكذا يجد القارئ نفسه أمام حكي من الدرجة الثانية، حكي يعمل على تضعيف السرد من أجل الانتصار إلى قتل الفراغ القيمي الذي تتخبط فيه شخصية الصادق الذي هو اسم على غير مسمى، عرف بالكذب والنصب والاحتيال، لا لشيء سوى لأنه يرغب في خوض تجارب جديدة، لم يعرفها داخل وسطه الأسري، تجارب ستجعله يتدحرج بين متاهات الحياة، إلى أن يجد نفسه فوق كرسي متحرك لا يقوى على الحركة.

تكشف الذاكرة المرممة على ذات هشة، قذفت بها رياح الحياة، فصارت تلوك عبارات الندم على ما فات، وتنشد عدالة القدَر فيما سيأتي من الأيام. هكذا إذن، تحتفي الذاكرة بنمطيها: المحرفة والمرممة، بالإنسان الذي أوهنته التجارب المتتالية، وقسا عليه الدهر، واستبدلت روحه سطوة الأشياء، حتى أنه فقد هويته الحقيقية.

مورفولوجية الأشكال

لا يسعنا ونحن نقارب تجليات الذاكرة في الرواية إلا أن نقف عند مورفولوجية بعض الأشكال الهندسية، التي دفعت المتخيّل السردي إلى أن يبنى على نسق ثلاثي العلامات الرمزية:

أوّلها: الدائرة، وتمثلها عين الأم، وما تلتقطه من صور وذكريات صادمة تمس الحي الخرب، وما تجسده من لف ودوران في نقل الأحداث والوقائع، داخل فضاء نصي يتميز بالانسجام والتناغم، يشكل مركزه الأساسي حدث اقتناء السيارة، ونبوءة الحادثة، يقول الصادق: “لقد وجدت والدتي في السيارة المغزل الذي تلف حوله خويطات حكاياتها”.

تعبّر الذاكرة المحرفة عن هشاشة الذات في علاقتها بالزمن، فلالة عين الناس تنظر إلى الحياة المستعادة لا باعتبارها ذكرى، وإنما فعل حقيقي، أبعدها عن الأحلام

وثاني العلامات: هو المربع، وتمثله رمزيا السيارة باعتبارها دوامة لا متناهية من الاكتشافات الممتزجة بطعم الحياة الغامضة، وبالقدر المحتوم الذي سيدفع بالصادق إلى التعرف على “خالدة” و”خلود”، اللتين ستزجان به في عالم الغواية والمال، فينتهي أمره بالشلل إثر حادثة مفجعة. كما يتمثل المربع في الصندوق العجيب الذي تطل منه عين الناس كي تلتقط صور الدنيا، من خلال ما يجري في الزقاق من وقائع وأحداث “فالعالم من دون أسرار موحش وفاقد المعنى”.

وآخر العلامات: هو المثلّث، وفيه تدور لعبة الاستهواء التي جرّت الصادق إلى عالم الغواية بشتى أنواعها، وأخضعته لاستلاب قهري من طرف أقرانه بدعوى البحث عن الهوية الذاتية المفتقدة، وكسب تجارب جديدة في الحياة، فقد جاء على لسان الصادق في أحد مقاطع الرواية: “كنت متعجلا على أن أمتص ما أمكن من هبات الحياة، حتى لو كانت ضئيلة الشأن… كنت أريد أن أفعل كل شيء في وقت وجيز، وأن أعيش كل شيء دفعة واحدة، وكأنني كنت أطارد الزمن خائفا من ألا يسمح لي بذلك”.

عن العرب اللندنية 

سعاد مسكين 

من نفس القسم الثقافي